أحدث المقالات

تحرير صولي (الاستثناء دليل التناول)

تحرير صولي (الاستثناء دليل التناول)
المؤلف د. أَبو محمد الموصلي
تاريخ النشر
آخر تحديث




تحرير أصولي (الاستثناء دليل التناول)

     ليس الغرض من الكتابة في هذا الموضوع هو بيان الحكم الراجح في هذه المسألة (صيام يوم السبت) ؛ فقد انقضت بانقضاء يومها.
ولكن الغرض هو تحرير المسألة الأصولية التي انضوت تحتها؛ كي لا يقع الخطأ فيها أو في أمثالها فيما بعد.  
ذلك أن أعظم حجة للقائلين بحرمة صيام يوم السبت هو قولهم: (الاستثناء دليل التناول).
إذ لولا الاستثناء الوارد في الحديث (إلا فيما افترض عليكم) لكان نهياً مجرداً، وكان العموم فيه عموماً مطلقاً إلا عن المخصصات المنفصلة الممكنة شرعاً وعقلاً. 
ولكن المخالفين في هذه المسألة الفقهية استندوا إلى قاعدة أصولية وتشبثوا بها ألا وهي قولهم (الاستثناء دليل التناول).
وللجواب عن هذه القاعدة وبيان حكمها وصحة الاستدلال بها نقول وبالله التوفيق:

أَولَاً: إِنَّ هذه القاعدة (الاستثناء دليل التناول) ذكرها قبل الشيخ الألباني رحمه الله كل من شيخ الإسلام بن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم وابن القيم في تهذيب السنن، ومع ذلك لم يعملا بمفهومها الجديد ولو كانت حجة قاطعة لما عدلا عن ذلك.
ثانياً: إن القاعدة الأصولية (الاستثناء دليل التناول) صحيحة في نفسها، ولكن يجب أن تفهم ضمن إطارها الذي أصلت له، ومعنى القاعدة : أن الاستثناء إذا ورد في نص ما فإنه يدل على العموم في غير المستثنى.
وهذا القدر من المعنى صحيح، قال العلامة أبن العثيمين رحمه الله: "وقوله إلا فيما افترض عليكم" استثناء يدل على أن ماقبله عام لأن لدى أهل العلم قاعدة يقولون: "إن الإستثناء معيار العموم" (معيار) يعني: ميزانا ، يعني : أنه إذا جاء اللفظ فيه استثناء فما قبل المستثنى عام وإلا لم يكن للإستثناء فائدة فإذا جاء شيء عام واستثني منه شيء فاعلم أنه عام فيما عدا المستثني" أهـ.

ولكن القدر االزائد على ذلك والذي فهمه بعض أهل العلم متأولاً غير صحيح، فقد زعم بأن هذا العموم المستفاد من الاستثناء غير قابل للتخصيص وهنا عقدة الخلاف بين الطرفين.

ثالثاً: إن الاستثناء هو في الأصل من أدلة التخصيص، وهو قول جمهور الأصوليين، بل أن الاستثناء أخص من التخصيص قال الرازي رحمه الله في المحصول: "وأَمَّا الفرق بين التخصيص والاستثناء فهو فرق بين العام والخاص عندي" أَهـ. 
يقصد أن التخصيص أعم من الاستثناء؛ لأن الاستثناء دليل من أدلة التخصيص المتصلة، فالنسبة بينهما العموم والخصوص المطلق، فكل استثناء فهو تخصيص وليس كل تخصيص استثناء . فالاستثناء من أدلة التخصيص المتصلة عند الجمهور خلافاً للأحناف.

رابعاً: فإذا كان الاستثناء مخصصاً متصلاً للنص الوارد فيه باتفاق الجمهور؛ فلا مانع من ورود مخصصات أخرى عليه سواء كانت متصلة أو منفصلة ؛ وكما قيل بالمثال يتضح المقال: 

- فمثال المخصص المتصل الوارد على الاستثناء قولك:   
ما نجح الطلاب إلا الأذكياء المجتهدون المثابرون.
فالمستثنى (الأذكياء) تخصيص متصل، وهو هنا يفيد التناول (العموم) لغيرِ الأَذكياء. 
وهذا العموم لم يمنع أن يخصص هذا النص بمخصصات متصلة أخرى ؛ ولذا جاء (المجتهدون) تخصيص ثانٍ، و(المثابرون) تخصيص ثالث. 

- ومثال المنفصل وهو الأكثر قوله تعالى: «وما محمد إلا رسول» وقد ثبت بالنصوص الأخرى أنه صلى الله عليه وسلم بشر وعربي وبشير ونذير ورحمة ...إل . 

فدل ذلك كله على أن القاعدة الأصولية (الاستثناء دليل التناول) صحيحة ولكن في حدود منطوقها الذي أصلت له وهو العموم.

خامساً: إن العموم الذي أفادته هذه القاعدة (الاستثناء دليل التناول) عموم عقلي وهذا العموم ليس بأولى ولا أقوى مما تفيده بعض الألفاظ التي تفيد العموم بمادتها لغةً وعقلاً وشرعاً كـ(كل وجميع وعامة ومن وما ...إلخ). ومع ذلك فهي قابلة للتخصيص لغة وشرعاً وعقلاً. فتخصيص عموم ما دلت عليه القاعدة من باب أَولى.

سادساً: وهذا هو الذي فهمه شيخ الإسلام بن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى ؛ فهذا ابن القيم يقول في تهذيب السنن: "قالوا وأما قولكم: إن الاستثناء دليل التناول إلى آخره فلا ريب أن الاستثناء أخرج صورة الفرض من عموم النهي، فصورة الاقتران بما قبله أو بما بعده أُخرِجَت بالدليل الذي تقدم فكلا الصورتين مُخْرَج، أما الفرض فبالمُخِْرج المتصل، وأما صومه مضافاً فبالمُخِْرج المنفصل فبقيت صورة الإفراد واللفظ متناول لها ولا مُخِْرج لها من عمومه فيتعين حمله عليها" أَهـ.
فانظر كيف جعل القاعدة من أدلة العموم القابلة للتخصيص المتصل، وكذلك المنفصل كما في الإضافة.
إلا أنه جعل بقية الصور داخلة في عموم النهي لا مخرج لها عنه . أما شيخ الإسلام فقد كان أكثر تخصيصاً وأدق تأصيلا من تلميذه فقد خصص هذا العموم بـالفرض (مخصص لفظي متصل) والإضافة (مخصص لفظي منفصل)، وأضاف صورة ثالثة وهي صيام يوم السبت إذا وافق يوم فضيلة كعاشوراء أو عرفة أو وافقة عادة للصائم كصوم داؤود وهو من (مخصص معنوي أو التخصيص بالعلة).
وقد أضفنا بفضل الله تعالى صورة رابعة في بحثنا الموسوم بـ(عدم السكت) وهي صيامه وحده لأي سبب كان بشرط عدم (قصده) بالصوم وإن لم يضف أو يوافق يوم فضيلة أو عادة؛ عملا بالعلة ودخولاً في المعنى وقياسا أولوياً على ما ذهب إليه العلامة ابن عثيمين رحمه الله تعالى في صيام يوم الجمعة كما سبق ذكر فتواه في بحثنا المذكور آنفاً.

سابعاً: ومن فَوَائدِ شَيْخِنَا أَبِي عَبْدِاللهِ فَتْحِي المَوْصِلْيّ (حَفِظَهُ اللهُ) في هذا الباب قوله: 
فائدة استقرائية: مراتب النهي عن الصوم ثلاثة:
المرتبة الأولى: النهي عن الصوم لذات اليوم: كالنهي عن الصوم في يومي العيد. 
المرتبة الثانية: النهي عن إفراد اليوم بالصوم ؛ كالنهي عن صوم يوم الجمعة.
والمرتبة الثالثة: النهي عن تخصيص اليوم بالصوم ؛ كالنهي عن صوم يوم السبت.
والعلة في النهي في المرتبة الأولى لكونه عيدا فهو محرم قصداً.
والنهي في المرتبة الثانية لكونه من جنس العيد.
والنهي في المرتبة الثالثة لكونه ذريعةً إلى التشبه بغير عيد المسلمين.
فالأول محرم لذاته، والثاني محرم لوصفه، والثالث محرم لغيره.
والأخير أقلها تحريما وأخفها مفسدة لهذا تزول العلة بعدم تخصيصه أو بأن يوافق يوما فاضلا أو بأن يكون جابرا لغيره ؛ كصوم السبت مع الجمعة.
هذه هي أصول المسألة وضوابطها وعللها ومراتبها من غير جدل مذموم أو تقليد مردود أو تطاول ممقوت. أَهـ.

قلت: هذا التأصيل القوي وحده يكفي لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
ولكن لو قال حفظه الله: النهي عن (قصد) يوم بدل (تخصيصه)؛ لكان اوفق لعلة النهي التي استنبطها شيخ الإسلام رحمه الله تعالى، والله أعلم. 

ثامناً: ومن الأدلة الأصولية مما يقتضي ترجيح ما ذهبنا إليه هو أن الصائم في يوم عرفة مقصده الأصلي هو عرفة وأما يوم السبت فهو تبع له ووصفه حينئذ بالسبتية وصف طردي غير معتبر . ولهذا أطلق الشارع الوصف الأصلي المقصود بالإعتبار فقال: «صيام يوم عرفة يكفر السنة الماضية والآتية» . وهذ هو الأسم الشرعي الثابت والغالب لهذا اليوم. 
ومما سبق يمكن تصور المسألة الأصولية التي اعتمدها طرفا النزاع ومن هو أولى بها فهماً واستدلالاً، ويكفي أن نقول أن هذا الفهم لهذه القاعدة الأصولية ولا أقول الحكم الفقهي وهو (أن الاستثناء يفيد العموم المطلق غير القابل للتخصيص) لم يقل به أحد قبل الشيخ الألباني رحمه الله تعالى..!! 
أما شيخا الإسلام ابن تيمية وابن القيم فقد ذكرها ثم نقضاه بالتخصيص المنفصل عقلاً وشرعاً. فـ(الاستثناء عندهما يفيد عموماً قابلاً للتخصيص)، وهنا نكتة المسألة وعلى هذا استقرت كلمة أهل الفقه والأصول وشراح الحديث وغيرهم. والله تعالى أَعلى وأَعلم.

وصلِّ الله تعالى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أَجمعين.

د. أَبو محمد الموصلي

تعليقات

عدد التعليقات : 0