أحدث المقالات

التنقيح لبعض قواعد الجمع والترجيح

 التنقيح لبعض قواعد الجمع والترجيح
المؤلف د. أَبو محمد الموصلي
تاريخ النشر
آخر تحديث


التنقيح لبعض قواعد الجمع والترجيح

سألني أخ فاضل: هل الجمع في حمل النهي على الكراهة التنزيهية أولى من غيره من الجمع فيما إذا تعارض قول وفعل، لأن إعمال النصين أولى من إهمال أحدهما؟

الجواب:

إن كلا القاعدتين من قواعد الجمع، وأحياناً تكونان من قواعد الترجيح إذا كان هناك جمع أقوى منهما؛ لأن قواعد الجمع ليست على درجة واحدة من القوة، والواجب استعمال القاعدة الأقوى في الجمع.

والذي أراه أن محاولة الجمع بين النصوص المانعة والمجيزة بحمل القول على العموم، والفعل على الخصوص، فضلاً عن حمل نصوص النهي على الكراهة بقرينة نصوص الإباحة، ليسا هما من نصوص الجمع على الإطلاق ولا من قواعد الترجيح على الإطلاق، خلافاً لما ذهب إليه كثير من الأصوليين؛ وذلك من وجوه:

أولاً:

أن حمل النهي على الكراهة عند الجمع بين النصوص يعني تجويز ذلك الأمر، وبالتالي سيوافق النص المجيز، فصار ترجيحاً لا جمعاً، إلا إذا تعذر الحمل، يكون عند ذلك هذا الجمع ممكناً ومحتملاً لسببين:

  1. أن التعارض من كل الوجوه غير ممكن؛ لذا يدفع بأي دفع، ويجمع بأي جمع، ولو كان محتملاً. والواجب إعمال قواعد الجمع الأقوى فما دونها، بحسب الإمكان، فإن قواعد الجمع من جنس الأدلة، تتفاوت مراتبها قوة وضعفاً.
  2. أن في الكراهة التنزيهية قدراً زائداً على الجواز المطلق، وبهذا القدر يمكن دفع التعارض الشديد، إذا تعذر ما هو أولى منه من قواعد الجمع. وفي هذه الحالة يكون هذا الفعل من قواعد الجمع لا الترجيح، وهذه طريقة الأحناف وسار عليها الجمهور في هذه المسألة وغيرها.

ثانياً:

أن الأصل هو الجمع بين النصوص المانعة والمجيزة، وألا يُلجأ إلى الجمع السابق إلا عند الضرورة، أما مع إمكان الجمع بحمل كل نص على علته، أو تنزيله في مناسبته، فلا يجوز؛ لأنه سيُعد حينئذ من قواعد الترجيح، ولا ينبغي مع إمكانية الجمع؛ لأن إعمال النصوص أولى من إهمال بعضها.

وهذه الطريقة التي امتاز بها مذهب الإمام أحمد، واختارها أتباعه، ولا سيما المحققون منهم كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والألباني وابن باز وابن عثيمين.

ثالثاً:

إن التزام الأئمة المحققين من أهل العلم بهذه الطريقة الأحمدية، لا يعني بالضرورة عدم مخالفتها أحياناً؛ سهواً أو قصداً، ولا سيما من الأئمة الثلاثة المتأخرين.

مثال ذلك: ذهب الشيخ الألباني رحمه الله وبعض طلابه – كما ذكرته في رسالة (عدم السكت في حكم صيام يوم السبت) – إلى ترجيح النهي المطلق في مسألة صيام يوم السبت، مدعياً أن ذلك من صور الجمع بين النصوص، حيث قدم القول على الفعل مرجحاً له مطلقاً.

والصحيح استعمال الجمع الأقوى منه بإحدى صورتيه الآتيتين:

  • الجمع العلمي الاختياري: بحمل النهي عن قصد صيام يوم السبت مفرداً.
  • الجمع الظني الاضطراري: بحمل النهي على الكراهة.

أما جمهور أهل العلم فقد قالوا بجواز صومه مطلقاً، كمالك وأبي حنيفة ورواية عن أحمد؛ لتضعيفهم الحديث، فلا جمع حينئذ ولا ترجيح.

الخلاصة:

أن الجمع مقدم على الترجيح باتفاق أهل الأصول، ولكن الجمع درجات في القوة:

  1. أعلاها: أن تنزل كل نص في بابه وتلزمه بمحرابه، وهذه طريقة أحمد والمحققين من أهل العلم.
  2. أوسطها: أن تحمل النهي على الكراهة، وهذه طريقة الأحناف، وسار عليها الجمهور غالباً.
  3. أدناها: أن تقدم القول على الفعل، وهي طريقة ابن حزم والشوكاني والألباني غالباً.

ونكتة المسألة: أنه لا يمكن أن يكون الأدنى من هذه القواعد جمعاً إلا إذا تعذر الأعلى منها، ذلك أن صور الجمع بين النصوص كثيرة جداً، فما صح منها في المسألة فهو الجمع العلمي الحقيقي، وما سواه من الصور فهو ترجيح على الحقيقة، وإن ادعى صاحبها أنها الجمع الصحيح.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

د. أبو محمد الموصلي – الأربعاء ١ / ذو الحجة / ١٤٤١هـ

تعليقات

عدد التعليقات : 0