تعاقب الحروف
تُعاقِبُ العربُ بين الحروف ولا سيما الميم فتبدل - كما يقول ابن يعيش في شرح المفصل من الواو واللام والنون والباء.
١) فإبدالُها من الواو في (فَم) وحدَه.
٢) ومن اللام في لغة طَيِّىءٍ في نحو ما روى النَّمِرُ بن تَوْلَبٍ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل إنه لم يَرْوِ غير هذا وفي سنده ضعف: "ليس من امْبِرِّ امْصِيامُ في امْسَفَر".
٣) ومن النون في نحو: (عَمْبَرٍ)، و("شَمْبَاءَ) ممّا وقعتْ فيه النونُ ساكنةً قبل الباء، وفي قول رُؤبة: [من الرجز]:
يا هالَ ذاتَ المَنْطِقِ التَّمْتامِ ... وكَفّكِ المُخَضَّبِ البَنامِ (البنان)
٤) ومن الباء في (بَناتِ مَخْرٍ")، و(عن كثم) أي عن كثب، و(ما زِلْتُ راتِمًا على هذا) أي : راتِبًا، حُكي ذلك عن أبي عمرو بن العَلا.
قلتُ: ومن أمثلة ذلك *(مكة)* فالميم أصل، وقد أبدت بالباء، فقيل *(بكة)*؛ وإِنما سميت مكةُ بكَّةَ؛ لأَنها تَبُكُّ أعناق الجبابرة إذا قَصَدوا منها إلحادًا. وقيل: لازدحام الناس فيها.
ومنه أَيضاً (مواخر) و(بواخر)؛ فـ"مَواخِرَ" جُمَعُ ماخِرَةٍ، و"المَخْرُ" في اللُغَةِ: الصَوْتُ الَّذِي يَكُونُ مِن هُبُوبِ الرِيحِ عَلى شَيْءٍ يُشَقُّ، أو يَصْحَبُ في الجُمْلَةِ الماءَ، فَيَتَرَتَّبُ مِنهُ أنْ يَكُونَ "المَخْرُ" مِنَ الرِيحِ، وأنْ يَكُونَ مِنَ السَفِينَةِ ونَحْوَها، وهو في هَذِهِ الآيَةِ مِنَ السُفُنِ.
ويُقالُ لِلسَّحابِ: "بَناتٌ مَخْرٌ" تَشْبِيهًا، إذْ في جَرْيِها ذَلِكَ الصَوْتُ الَّذِي هو عَنِ الرِيحِ، والماءُ الَّذِي في السَحابِ وأمْرُها يُشْبِهُ أمْرَ البَحْرِ" (المحرر الوجيز لابن عطية).
وإذا نظرنا في معاني قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وَتَرى الفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ﴾، نجد فِيهِ خَمْسَةَ أوْجُهٍ كلها تدل على فعل الحركة والجري والشق:
1. أَنَّ المَواخِرَ المَواقِرُ، قالَهُ الحَسَنُ.
2. أَنَّها الَّتِي تَجْرِي فِيهِ مُعْتَرِضَةً، قالَهُ أبُو صالِحٍ.
3. أَنَّها تَمْخُرُ الرِّيحَ مِنَ السُّفُنِ، قالَهُ مُجاهِدٌ؛ لِأنَّ المَخْرَ في كَلامِهِمْ هُبُوبُ الرِّيحِ.
4. أَنَّها تَجْرِي بِرِيحٍ واحِدَةٍ مُقْبِلَةً ومُدْبِرَةً، قالَهُ قَتادَةُ.
5. أَنَّها الَّتِي تَشُقُّ الماءَ مِن عَنْ يَمِينٍ وشِمالٍ؛ لِأنَّ المَخْرَ في كَلامِهِمْ شَقُّ الماءِ وتَحْرِيكُهُ، قالَهُ ابْنُ عِيسى (النكت والعيون).
وأَمَّا قولهم: "بناتُ بَخْرٍ" و"بنات مَخْرٍ"، عن السحاب، فقد حكاه الأصمعيّ، وهي سَحائبُ بيضٌ تأتي قبل الصيف. وقال أبو بكر بن السرّاج: هو مأخوذ من البُخار، لأنّ السحاب من بخار الأرض، فعلى هذا الباء أصلٌ، والميم بدلٌ منها.
قلت: وربما يكون العكس وهو أن الميم هو الأصل؛ لأنه هو الذي جاء في التنزيل، ولأن الأصل أن تكون مأخوذة من الفعل (مخر) وهو شق الهواء بهذه السحب.
وقد يكون الباء هو الأصل كما قال ابن السراج باعتبار خصوصية المعنى وعدم القياس، فـ(بنات بخر)، وهي السحاب غير (المواخر)، وهي السفن؛ لأَنَّ اشتقاق (بخر) من البخار؛ لأَنَّ السحاب من بخار البحر.
والخلاصة: أَنَّ تعاقب الحروف من سنن العرب في كلامهم، ومن أمثلة ذلك (مكة) و(بكة)، ومثله (مواخر) و(بواخر)، ولكل منها معناه الخاص به. والله أعلم.