أحدث المقالات

ففهمناها سليمان ..(2)

ففهمناها سليمان ..(2)
المؤلف د. أَبو محمد الموصلي
تاريخ النشر
آخر تحديث



تأملات في آية.. (٢) {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ}. الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وبعد.. تحدثنا في الأمس عن بعض معاني قوله تعالى : {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}، واليوم إن شاء نتحدث عن تتمة الآية وهي قوله تعالى : {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}، وعلاقتها بأول الآية. أعلم -علمك الله- أن الفهم نوعان: الأول- الفهم للكلام المجرد، وهو إدراك معانيه. الثاني- الفهم للكلام المتعلق بالمتكلمين به، وهو معرفة مقاصد أهله ومرادهم منه، وهذا هو الفقه في اللغة، وهو أخص من مطلق الفهم، ويطلق اصطلاحا على معرفة الأحكام؛ لكون آيات الأحكام وأحاديثها قائمة على مقاصد، وهي مرادات الله ورسوله منها. وهذا الفقه لا يقوم على النصوص وحدها وإنما يتعلق بأمور كثيرة كالحال والسياق والمناسبة والمخاطب والوضع الخاص والعام له، والأدلة الخارجية، والجمع مع المعارض وغيرها. ولذا كانت تسمية معرفة الأحكام بعلم الفقه تسمية دقيقة وعميقة. بل إن الدين كله قائمٌ على معرفة مراد الله ورسوله ومقاصدهما منه خبراً وطلباً؛ ولذا أطلق النبي صلى الله عليه وسلم عليه مسمى الفقه فقال داعيا لابن عباس : (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل)، فالدين كله فقه حتى التأويل، وقد خص القرآن بالتأويل؛ لأنه نوعان: - التأويل العلمي: وهو العلم بمعنى الآية وتفسيرها، وهذا من الفقه. - التأويل العملي: وهو العمل بالآية حالاً أو مآلا. وهذان النوعان داخلان في قول الراغب في التأويل:"هو رد الشيء إلي الغاية المرادة منه، علما كان أو فعلا". وتقديم الفقه على التأويل في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم هو من باب تقديم العِلم على العمل، فتأمل. • فما علاقة الفهم في أول الآية بالحكم والعلم في أخرها..؟ اعلم - علمني الله وإياك - أن الفهم وسيلة لأهلية الحُكم والعِلم، فلا يستحق الحكم ولا يستأهل العلم إلا من أوتي نوعاً من الفهم، وهو الفقه. وهذا الفقه هو الذي يؤهله للإجتهاد في الأحكام العلمية أو العملية أو القضائية، علما أنه لا يلزم من هذا الفهم الإصابة، لأنه قدر زائد عن الفهم، وهو التفهيم الذي ألهمه الله عز وجل لنبيه سليمان وقد ذكرنا معانيه في المقالة السابقة. فالفقه وهو فهم المقاصد والمرادات هو المؤهل للاجتهاد، والتفهيم هو المؤهل للإصابة فيه. وهذا معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثم أَصابَ فله أَجْرَان، وإِذا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثم أَخْطَأَ فله أَجْرٌ» متفق عليه. فقوله:(الحاكم) ومثله الفقيه، والمجتهد، هو المؤهل للحكم العلمي أو القضائي، ولا يكون مؤهلاً إلا بأهليه الفقه، وهو أخص أنواع الفهم، (فهم المقاصد والمرادات). وقوله:(فاجتهد)، وهذا شرط زائد على تلك الأهلية؛ إذ لا يكفي كونه حاكما أو فقيها أو مجتهدا، ليحكم في المسألة، بل لا بد له من اجتهاد نظري وعملي معين للمسألة المعينة، فالاسم للاسم، والفعل للفعل، أو كما يقال الكل للكل، والجزء للجزء، فادراك ملكة الفقه عن الله ورسوله أوجبت له لقب الحاكم أو الفقيه أو المجتهد، واجتهاده الفعلي المعين لمعرفة حكم المسألة المعينة أوجب له الأجر الواحد، فإذا وُفِّقَ وفهِّمَ، فأصاب، استحق الأجرين. وههنا نكتة أخرى في قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ۚ}. فقوله:{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} تستلزم الحكم والعلم وزيادة . وقوله:{وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} تتضمن الفهم والفقه. وعليه، فليس في الآية تعريض بالنبي الكريم داؤود عليه السلام، لأن أخرها دلَّ بفحوى الخطاب على فهمه وفقهه، ولم يزد عليه سليمان عليه السلام إلا بتوفيق الإصابة، لغرض أخر خارج عن المَلكة والفِهم، بحسب بعض التفاسير، فداؤود عليه السلام هو من أوتي فصل الخطاب، مما يقتضي أن فتواه حق، لأنه أخذ بالغرم، وهو مما جاءت به السنة، ولكن فتيا سليمان كانت أحق، لأنها كانت أرفق بالخصوم، ففتواهما دائرتان بين الفرض والنفل، والعدل والإحسان. والله تعالى أعلى وأعلم. د. أبو محمد الموصلي

تعليقات

عدد التعليقات : 0