بزوغُ الأَهِلَّة في ترتيبِ الأَدِلَّة
ذهب جمهور أهل العلم من الفقهاء والأصوليين ولا سيما المتقدمون إلى ترتيب الأدلة كالآتي: (الكتاب والسنة والإجماع والقياس).
يقول عبد الوهاب خلاف: "وهذه الأدلة الأَربعة اتفق جمهور المسلمين على أنها مرتبة في الاستدلال بهذا الترتيب (القرآن، فالسنة، فالإجماع، فالقياس). بمعنى أَنَّ المجتهد يجب عليه أن يبحث عن الحكم الشرعي للنازلة في القرآن أولا، فإذا لم يجد بحث في السنة، فإذا لم يجد بحث هل وقع عليها إجماع أم لا..؟ فإذا لم يجد بحث هل استعمل فيها قياس أم لا..؟ وهكذا".
وهذا يسمى (ترتيب الأدلة حسب قوتها المصدرية وهيمنتها التشريعية) ، وهذا يقتضي الأخذ بالأدلة حسب ترتيبها هذا، ومن الأدلة على هذا الترتيب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْاَمْرِ مِنْكُمْ}، ومنها حديث معاذ بن جبل لما أرسله النبي إلى اليمن، ووصية عمر لأَبي موسى الأَشعري.
وذهب المتأَخرون من الأُصوليين إلى عكس هذا الترتيب؛ لقوة دلالة الأدلة المتأخرة وقطعيتها، وخصوصيتها الدلالية وسلامتها من النسخ والتأويل.
وهذا يسمى (ترتيب الأدلة باعتبار قوتها الدلالية القطعية أو الظنية)، فيجوز على هذا الترتيب إعمال نصوص السنة القطعية في ظواهر القرآن وعموماته، وتقديم العمل بالإجماع على الأخبار الظنية، وبالقياس المنصوص على علته على خبر الآحاد الظني، وهكذا.
الترجيح:
والراجح في هذا الباب ما ذكره الإِمام الغزالي رحِمهُ اللهُ وهو يتحدث عن ترتيب الشافعي للأدلة في الاستدلال بها، فقال: "ولقد أخر الإجماع عن الأَخبار؛ وذاك تأخيرُ مرتبةٍ، لا تأخيرُ عَمَلٍ؛ إذ العمل به مقدم، ولكن الخبر يتقدم في المرتبة عليه، فإِنَّ مستندهُ قبول الإجماع".
ونكتة المسألة: هي في التفريق بين مناط الترتيب؛
- فترتيب المتقدمين في باب جنس الدليل وقوته المصدرية وهيمنته التشريعية.
- وترتيب المتأخرين في باب أَفراد الأَدِلة وقطعيتها الدلالية، ففرق بين (قوة الجنسِ في الدليل، وظنية الدِلالة في التنزيل).
فمن الأول يُستفادُ الترجيح بين جنس الأَدِلة عند التعارض المحض، وهو استواء القوة الدِلالية لأَفراد الأَدِلة.
ومن الثاني يُستفادُ الترجيح في أَفرادِ الأَدِلة للأَجناسِ المختلفة؛ لأَنَّ فيهِ يظهرُ التكاملُ الحقيقي بينها، وتكاملها هو تحقيقها لمصلحة المكلفين.
والله تعالى أَعلى وأَعلم.
د. أبو محمد الموصلي.. ١٦ / ذو الحجة / ١٤٤١هـ