الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد..
فإنَّ قوله تعالى: {إن هذان لساحران} مما أشكل على كثير من الناس؛ فإن الذي في مصاحف المسلمين قوله: {إن هذان} بالألف، وبهذا قرأ جماهير القراء، وهي قراءة نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم، بل إنَّ جمهور على هذه القراءة، وهي أصح القراءات لفظا ومعنى.
• منشأ الإشكال :
ومنشأ الإشكال أن الاسم المثنى يعرب في حال النصب والخفض بالياء، وفي حال الرفع بالألف، وهذا متواتر من لغة العرب ولغة القرآن.
فظن النحاة أن الأسماء المبهمة المبنية مثل (هذين) و(اللذين) تجري هذا المجرى وأن المبني في حال الرفع يكون بالألف ومن هنا نشأ الإشكال.
وهذه القراءة المشهورة الموافقة لرسم المصحف {إنَّ هذانِ لساحران}. وقد احتج لها كثير من النحاة بل جمهورهم بأنها لغة بني الحارث بن كعب وقد حكى ذلك غير واحد من أئمة العربية . منهم أبو زيد والأخفش والكسائي والفراء، وحكى أبو الخطاب أنها لغة بني كنانة وحكى غيره أنها لغة لخثعم ومثله قول الشاعر:
تزود منا بين أذنـاه ضربة
دعته إلى هاوي التراب عقيم
ولكن القرآن لم ينزل بهذه اللغة بل إنَّ المثنى من الأسماء جاء في جميع القرآن بالياء في النصب والجر كما تقدمت شواهده.
والصحابة إنما قرأوا كما علمهم الرسول وكما هو في لغة العرب ولغة القرآن وهي لغة قريش وهي اللغة الفصيحة المعروفة عندهم .
وذلك أنهم في الأسماء المبهمة يقولون:
[جاء هذان، ورأيت هذان، ومررت بهذان]؛ كلها بالألف في الرفع والنصب والخفض، ومن قال إن لغتهم إنما تكون فقط في الرفع بالألف طولب بالشاهد على ذلك والنقل عن لغتهم المسموعة منهم نثراً ونظماً، وليس في القرآن ما يشهد له.
ولا يجوز قياس الأسماء المبهمة المبنية على الأسماء المعربة نقلا وعقلا :
- أما النقل والسماع فكما ذكرناه.
- وأما العقل : فإن ألف التثنية في (هذان) هي ألف (هذا)، والنون فرقت بين الواحد والاثنين كما فرقت نون الذين بين الواحد والجمع في الأسماء الموصولة.
✓ بيان أصل (هذان):
أعلم - يا رعاك الله بحفظه - أَنَّ الأصل في
(هذان) هو : (هذا) + (ان) التثنية = (هذاان).
فكيف أصبحت (هذان) ..؟
✓ الجواب:
• أولاً : الهاء: حرف تنبيه زائد، ليس هو من أصل الكلمة، باتفاق النحاة .
• ثانياً : (ذا) هي اسم إشارة مبهم مبني، مكون من حرفين:
- أَحدهما : ( ذَ ) .
- والأَخـر : ( ا ) وهو حرف مد ولين، وهو كالحركة .
فلما أُضيف إليهما الألف والنون (ان)؛ لأجل التثنية؛ أصبحت الكلمة المثناة (هذاان)؛ فوجب حذف إحدى الألفين في التثنية (اا)، ولم يحسن حذف الأُولى؛ لأنه من أصل الكلمة ولئلا يبقى الاسم على حرف واحد (ذَ)؛ فحذف علم التثنية، وهي الألف الثانية، لأنَّ النون تكفي في الدلالة على التثنية، فأصبح الاسم الإشارة المثنى (هذان) .
∆ والفرق بين (هذان) القرآنية هذه وبين (هذان) النحوية كبير:
✓ فـ(هذان) القرآنية مبنية، حالها حال المفرد(هذا) والجمع (هؤلاء)، ولا يصح أن يشذ المثنى عن أخويه الأصغر والأكبر .
✓ بينما (هذان) النحوية معربة، خلافا وشذوذا عن أختيها . وكذا يقال في (اللذان) مع أخويها (الذي) و(الذين) .فهي مبنية حالها في البناء كحالهما .
ومنه يعلم خطأ ما يذكره النحاة وتعلمه المدارس والجامعات من أن أسماء الإشارة والأسماء الموصولة كلها مبنية عدا المثنى منها، والأصل بناؤها جميعا؛ لأنها أشبهت الحرف في الافتقار اللازم كما يقول النحاة أنفسهم .
فالأسماء المعربة ألحق مثناها بمفردها ومجموعها تقول : رجل ورجلان ورجال فهو معرب في الأحوال الثلاثة : يظهر الإعراب في مثناه كما ظهر في مفرده ومجموعه .
∆ حجة أخرى :
لو كان هـ(ذا) اسم معرب مفرد كسائر الأسماء المعربة؛ لقالوا في التثنية : (ذوان)، ولم يقولوا : (ذان) كما قالوا : عصوان ورجوان ونحوهما من الأسماء الثلاثية .
وقد قالوا فيما حذفوا لامه : (أب = أبوان) فردته التثنية إلى أصله، وكذلك (يد = يدان)، وأما (ذا) فلم يقولوا (ذوان) بل قالوا : (ذان) .
وكذلك أعربوا (ذا) و (ذات) التي بمعنى صاحب؛ وذلك لأنها معربة تغير إعرابها بحسب موقعها؛ فقالوا : "هو ذو علم" "رأيتُ ذا علم" "مررتُ بذي علم" كما قال تعالى : {ذواتا أفنان}، فرفعها بالألف .
فأما المستعمل في الإشارة والأسماء الموصولة والمضمرات فهي مبنية .
ومثال اسم الإشارة : (ذان) و (تان) كما قال تعالى : {فذانك برهانان من ربك}، مبني في محل رفع .
فتبين أن الذين قالوا : إن مقتضى العربية والنحو أن يقال : (إن هذين) ليس معهم بذلك نقل عن لغة القرآن التي نزل بها، وهي أن يكون المثنى من أسماء الإشارة مبنيا في الأحوال الثلاثة على لفظ واحد كمفرد أسماء الإشارة ومجموعها .
• من ذكر هذا القول :
ومن العلماء الذين ذهبوا إلى هذا القول الفراء وابن كيسان وابن الانباري والجرجاني وغيرهم .
فالقاعدة القرآنية تنص على (أن لفظ المثنى في الأسماء المبنية في الأحوال الثلاثة نوع واحد)؛ فلم يفرقوا بين مرفوعه وبين منصوبه ومجروره كما فعلوا ذلك في الأسماء المعربة .
√ اعتراض وجوابه :
فإن قالوا كيف تجيب عن قوله تعالى في قصة موسى : {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين} ولم يقل : (هاتان)؛ فدل على أنها معربة ؟
✓ فالجواب أن الأصل في التثنية هي اتباع المفرد في البناء؛ لأن المفرد هو أصل المثنى والجمع، فلما كان مفرد (هذان) هو (هذا) بقيت الألف في المثنى رفعا ونصبا وجرا .
بينما الأصل في المثنى (هاتين) هو المفرد (تي) وهو اسم الإشارة للمؤنث؛ لذا جاء بالياء؛ لمناسبة لفظ المفرد من وجه، ومناسبة حكم التأنيث من وجه ثانٍ، ومناسبة الإعراب من وجه ثالث، فـ(هاتين) تبع لابنتي، وقد يسمى عطف بيان، وهو يشبه الصفة؛ لذا كان قوله : {إحدى ابنتي هاتين}، أحسن من قوله: (هاتان)؛ لهذه الوجوه فضلا عن ذلك أنه لو قال : "إن ابنتي هاتان" لأوهم أن يكون خبرا تتم به الحملة لا عطف بيان تابع لتمام معنى الاسم، والله تعالى أعلم .
وبهذا يظهر أَنَّ هذه القراءة هي الموافقة للسماع والقياس معاً ولم يشتهر ما يعارضها من اللغة التي نزل بها القرآن . والله أعلم .
✓ الأوجه الأخرى في توجيه الآية :
وهذا وجه واحد اخترته من أكثر من ستة وجوه ذكرها أهل العلم من أهل النحو واللغة والبلاغة والتفسير وغيرهم . منها على سبيل الإيجاز والاختصار :
✓ الوجه الأول : (إنْ) مخففة من الثقيلة ومهملة، فلا عمل لها؛ أي : إنها لا تنصب المبتدأ، و(هذان) اسم إشارة مرفوع بالابتداء، وعلامة رفعه الألف، واللام الفارقة، و(ساحران) خبر (هذان) مرفوع بالألف، وهذا قول جملة من النحويين .
✓ الوجه الثاني : (إنَّ) هنا ليست الناسخة؛ بل هي إن بمعنى "نعم"، ويكون المعنى: نعم هذان ساحران، وهو قول جماعة من النحويين، منهم المبرد والأخفش الصغير، وذكره أبو إسحاق الزجاج في تفسيره .
وهل تأتي "إنَّ" بمعنى "نعم" في اللغة العربية؟
فالجواب : نعم، ودليل ذلك قول الشاعر - وهو عبدالله بن قيس الرقيات -:
بَكَرَ العَوَاذِلُ فِي الصَّبُو ... حِ يَلُمْنَنِي وَأَلُومُهُنَّهْ
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَ ... وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهْ
أي: فقلت: نعم . ومما يستدل به على ذلك أيضًا: أن رجلاً قال لابن الزبير: لعن الله ناقةً حملتْني إليك، فأجابه ابن الزبير: إنْ وراكبها، (أي: نعم، وراكبها أيضًا) . وعلى هذا الوجه يكون: (هذان ساحران) مبتدأ وخبرًا مرفوعين كالوجه السابق .
✓ الوجه الثالث: (إن) هنا نافية، واللام الداخلة على (ساحران) بمعنى: إلا، فيكون المعنى: ما هذان إلا ساحران، وهذا قول الكوفيين من النحاة، وعلى هذا القول تكون (هذان) مبتدأ مرفوعًا .
✓ الوجه الرابع : (إنَّ) ناسخة وناصبة، و(هذان) اسمها، ومجيء اسم الإشارة بالألف مع أنه في محل نصب جَارٍ على لغة بعض العرب من إجراء المثنى وما يلحق به بالألف دائمًا، وهو قول أبي حيان وابن مالك والأخفش وأبي علي الفارسي .
وهل يمكن في اللغة العربية أن يكون المثنى منصوباً ورغم ذلك يكون بالألف..؟
فالجواب : نعم، وهذه لغة كنانة وبلحارث بن كعب، وبني العنبر وبني هجيم، وبطون من ربيعة وخثعم وهمدان وعذرة وغيرهم .
ومما يشهد لذلك قولُ الشاعر أبي النجم العجلي:
وَاهًا لِرَيَّا ثُمَّ وَاهًا وَاهَا ... يَا لَيْتَ عَيْنَاهَا لَنَا وَفَاهَا
وَمَوْضِعَ الخَلْخَالِ مِنْ رِجْلاَهَا ... بِثَمَنٍ نُرْضِي بِهِ أَبَاهَا
وقال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "وهذه لغة لبعض العرب، جاءت هذه القراءة على إعرابها" .
✓ الوجه الخامس: (إنَّ) ناسخة ناصبة، واسمها ضمير الشأن محذوف، و(هذان ساحران) مبتدأ وخبر، والجملة في محل رفع خبر إن .
والمعنى إنَّ (الحال والشأن) هذان لساحران، وإلى ذلك ذهب قدماء النحاة .
• ولشيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى كتاب في اعراب {إنَّ هذانِ لساحران} . ذكر فيه هذه الوجوه وغيرها .
والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
د. أبو محمد الموصلي ..