فيما يقتضي الفساد
بحثٌ أُصُولي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا .
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران: 102) { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } (النساء:1) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } (الأحزاب:70-71) .
أَمَّا بعد :
فإِنَّ من أَعظمِ مسائل الأصول التي يتوقف عندها أَهل العلم فضلاً عن طلبته هي مسأَلة اقتضاءِ النهيِّ الفسادَ؛ ليسَ لكونهِ يتعلقُ بأحد شطري الحكم التكليفي ــــــــ كما قد يتصوره بعض طلبة العلم ــــــــ فحسب، بل لكونه يتعلق بالحكم التكليفي كلهِ منطوقاً ومضموناً ، وبالحكم الوضعي لزوماً، فإِنَّ الشرع الحكيم ــــــــ كتاباً وسنَّةً ــــــــ لم يأتِ بهذه المعاني الاصطلاحية المحدثة؛ وإِنما جاءَ بالمعاني الشرعية الكلية الواضحة، فحملُ هذهِ على تلك إِنما هو تحجير لواسع، بل ما حدث خلاف علمي في هذه الأَمة قديماً وحديثاً فإِنَّ أَكثرَهُ من شؤمِ تبديل المعاني الشرعية بغيرها من الاصطلاحات الحادثة والرسوم الجامدة، وحملها قصراً وقهراً عليها، بل وادعاء أنها ــــــ حقَّاً ـــــ مرادُ اللهِ ورسولهِ !! . لذا جاءتْ هذهِ الدراسة المتواضعة كمحاولةٍ جديدة في فهم العلم والخلاف الناتج عنه عن طريق تأَصيلِ المعاني الشرعية أَولاً ثم النظر في مسائل العلم والخلاف ثانياً، يعني عكس القضية التي سار عليها الكثير من العلماء والفقهاء والأصوليين وغيرهم؛ فإِنَّ اصطلاحات القوم إنما جاءتْ لتقريب العلوم لا لتبديلها وهنا نكتة المسألة، فمن وفق للحد الفاصل بينهما فهو الموفق، ومن حُرِمَهُ فهو إِما نابذٌ لجهود العلماء واصطلاحاتهم وتأصيلاتهم فهذا قد طوَّل الطريق على نفسهِ، وإِما هو مقلدٌ لهم في كل شيء فهو واقع في بعض التبديل لا محال .
هذا وقد جعلتُ من مسالة البحث على دقتها وأهميتها وخلاف العلماء فِيها مجالاً لتطبيق هذه النظرة التأصيلية على هذه المسألة الأصولية، فيكون غيرها من باب أولى .
وَقَد عرضتُ هذا البحث على شيخنا المُكرَّم أبي عبد الله فتحي عبد الله سلطان الموصلي حفظهُ الله تعالى فقال عنه : بحث جيد جداً بل ممتاز . فجزى الله شيخنا عنا خير الجزاء، وبارك في علمه ووقته .
خرط القتاد
فيما يقتضي الفساد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين .
وبعد ..
فإن الأصل المتفق عليه في هذا الباب هو قول النبيِّ : (مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ؛ فَهُوَ رَدٌّ متفق عليه، وفي لفظ:مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا؛ فَهُوَ رَدٌٌّ ) وفي لفظ مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا مَا لَيْسَ فِيْهِ؛ُ فَهُوَ رَدٌّ أخرجه أبو يعلى وأبو عوانة بإسنادٍ صحيح.
فإنَّ هذا الحديث هو العين التي انبجستْ من تحتها كلُّ تلك المذاهبِ وَالتي أَصَابتْ بعضاً وأَخطأتْ بعضاً؛ ذلك أَنَّ الاختلافَ دليل التخطئةِ، لا سيما في الأمر الواحد حقيقة وحكماً؛ لذا ينبغي الاعتصام بهذا الأصل أَولاً، وفهمه حسب مقتضاهُ العلمي والأصولي ثانياً، ورد جميع المشتبهاتِ من الأقوال، والأفعال، والأمثال، إليه ثالثـاً؛ لأنَّ الأصلَ – ها هنا - مُحكَمٌ، واللهُ تعالى أَعلى وأَعلم .
وعليه يقال: إِنَّ هذا الحديث يدلُ بمنطوقهِ على العمومات الآتية :
أَولاً: عموم العامل أَو المحدِث، وهذا يؤخذ من اسم الشرط «مَنْ»، في روايتي الحديث، والذي يفيد العموم بصيغتهِ .
ثانياً: عموم العمل؛ وهذا يؤخذ من النكرة التي في سياق الشرط في قولهِ : «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً». وفي مجيئها من لفظ الفعل إِشارة إلى توكيد العموم عن طريق التوكيد بالمصدر، وهناك إِشارة ثالثة، ولكنها في الرواية الأخرى للحديث، عن طريق الاسم الموصول «مَاْ». في قولهِ : مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ متفق عليه. فهذهِ ثلاث إِشارات تفيد عموم الفعل ليشمل الدين كله؛ فهو يشملُ :
أَولاً : من جهة العامل؛ القول والفعل والاعتقاد والنية .
ثانياً : من جهة العمل؛ العبادات والمعاملات والآداب وغيرها .
ثالثاً : من جهة علاقة العامل بالعمل؛ من أَحدث العمل، ومن تبع غيره عليه( ).
فصل
في بيان المقصود بلفظ الأمر في الحديث
وأَما قولهُ: « ..أَمرنا.. » في روايتي الحديث فالمراد بهِ :
أَمر الوحي؛ كتابا وسنة وما تضمناه من الأدلة كالإجماع والقياس وقول الصحابي الذي لم يخالف ..الخ.
وفي هذا القيد النبوي إِشاراتٌ مهمةٌ مِنها :
أَولاً : فَالْأَمْر وَاحِد الْأُمُور، أَوْ فِيمَا أَمَرْنَا بِهِ، فَالْأَمْر وَاحِد الْأَوَامِر أُطْلِقَ عَلَى الْمَأْمُورِيَّة وَالْمُرَاد عَلَى الْوَجْهَيْنِ الدِّين الْقَيِّم. وهو على المعنيين يدلُّ على الأمر الشرعي العام دلالة وضعية وعقلية؛ فيشمل الأمر والنهيَ الاصطلاحيين؛ لذا فتخصيص الدليل بقاعدة : « النهي يقتضي الفساد » مما يستغرب لهُ ..!! إِلا أَن يقال أَنَّ النهي المراد بهِ في القاعدة هو النهي الشرعي العام ! ولكن يعكر على ذلك استعمال كثير من العلماء والأصوليين هذه القاعدة في النهي الاصطلاحي الخاص فحسب. لا سيما وأَنَّ الحديث جاء بلفظ الأمر وهو بمنطوقه يدل على الأمر، سواء قلنا بالمعنى الشرعي العام أَو الاصطلاحي الخاص، وهذا لا يعني عدم دخول النهي الاصطلاحي الخاص في معناه الشرعي العام كما أسلفنا .
ثانياً : ولما كان الأمر الشرعي في هذا الحديث يشتمل على الأمر والنهي الاصطلاحيين وهما بدورهما يشتملان على أربعة أَحكام : الأمر الواجب والأمر المستحب والنهي المحرم والنهي المكروه؛ فهذا يعني أن مخالفة الأمر بكل هذه المعاني تقتضي الفساد، ولا غرو في ذلك إذا علمنا بأن الفساد لا يتعدى إلا فيما قد قدره الشرع.
أو يقال أَنَّ الأمر المستحب والنهي المكروه يخرجان عن القاعدة؛ كون الشرع لم يأمر بالأول أَمراً مطلقاً، ولم ينه عن الثاني نهيا مطلقاً، بل ولم يلزم بهما، بله قد أجازهما عند الحاجة، فهما لا يتعارضان مع القاعدة؛ فالفساد مختص بما كان مقتضى الأمر والنهي هو التحريم لا غير، والله تعالى أَعلم .
مثال للتوضيح: الالتفات في الصلاة مكروه؛ فإما أَن يقال إِنَّ الالتفات نفسهُ هو الفاسدُ؛ لأنه أَمر منهيٌ عنهُ، ولكن لا تأثير له على أصل العبادة وصحتها؛ لأنهُ لم ينهَ عنهُ نهياً جازماً، كما هو الوجه الأول، أَو يقال بأَنَّ المكروه أَصلاً وكذا ترك المستحب لا يدخلان في أَصل هذهِ القاعدة؛ لما سبق، ولاختصاص القاعدة بما كان مقتضاه التحريم أَمراً كان أَو نهياً، والأقرب منهما هو الأول؛ لأنه يحافظ على عموم القاعدة المستمد من عموم الحديث؛ والأصل إعمال العموم، فضلا عما في إعمال العموم من تحقيق ثمرة الأمر المتنازع عليه وهو فعل المكروه، كما أنه يفرض نفسه جوابا عن السؤال الملزم لمن ينكر عموم القاعدة .
حكم المكروه :
فلو سئلنا عن حكم فعل المكروه؟ كان الجواب على التفصيل الأتي:
ألأول: إما أن يكون فعل المكروه لعذر أو حاجة؛ فإن المكروه حينئذ جائز مشروع؛ لان المكروه ـ كما يقول العلماء ـ يباح لأدنى حاجة.
ثانياً: أو يكون فعل المكروه لغير حاجة أَو عذر، فآنذاك يقال: إنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد، إلا أن النهي في المكروه يقتضي فساد المنهي عنه وحدهُ دون تأثيمهِ، ولا يتعدى إلى الأمر المشتمل عليه لما سبق، وقد يدل على ذلك، أن النهي عن الفعل إنما يكون لمفسدة فيه، والفعل الذي فيه مفسدة الأولى أن يقال بفساده، ويدل على ذلك أيضًا، أنه لو قيل: بأن النهي لا يدل على الفساد، لكان في ذلك حث على فعل ما نهت عنه الشريعة، وهذا ما لا يقوله أحد.
ومن باب الاستطراد في الفائدة مما يرجع إلى أصل القاعدة، أن يذكر حكم فعل المحرم؛ فإنه على التفصيل الأتي:
ألأول: إِما أن يكون فعل المحرم لضرورة؛ فلا فساد حينئذٍ؛ لان الضرورات تبيح المحضورات، فيكون حكم المحظور جائزا آنذاك، كالكلام في الصلاة لإنقاذ شخص أوشك على هلكة.
ثانيـاً: أو يكون فعل المحرم لغير ضرورة؛ فآنذاك يقال أنه منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، وهل يتعدى إل فساد الأمر المشتمل عليه عبادة كان أو معاملة ..؟ في هذا خلاف شديد بين العلماء تأصيلاُ وتطبيقاً وأقوالهم في هذا مذكورة معروفة.
فصل
هل الأصل سلامة القاعدة ..؟
فإن قيل أن الأصل سلامة القاعدة وهي أن النهي يقتضي الفساد، وأما الأمر فمخالفته توقع العبد في النهي العام فيرجع الأمر إليه.
فالجواب:
أولاً: أن قصر القاعدة على النهي خلاف ظاهر الحديث.
ثانياً: إن النهي هو فرع عن الأمر وليس العكس.
ثالثاً: أن ترك الأمر أعظم من فعل النهي.
رابعا: إن علة الفساد نوع من التحريم، وليس مطلق النهي، فهو أعم سبباً وأخص معنى من النهي؛ لذا فتعميم القاعدة أو توضيح القاعدة حتى تشمل الأمر والنهي وفروعهما أولى من تخصيصها بأحدهما، والله أعلم.
فإن قيل لمَ ذكرت القاعدة بهذا اللفظ..؟!
فالجواب:
أولاً: إن المنهيات جميعها ليست من أمر الدين فيجب ردها.
ثانياً: إن كل تارك للأمر هو في الحقيقة واقع في النهي.
ثالثاً: انه لا يتصور اجتماع الأمر والنهي من وجه واحد؛ بحيث تكون العبادة مأموراً بها ومنهياً عنها من نفس الوجه؛ فهو أمر مستنكر شرعاً وعقلاً.
رابعاً: إن النهي مأمورٌ باجتنابهِ مطلقاً، أما الأمر فهو مقيد بالاستطاعة؛ فالذي يحكم في القاعدة المطلق لا المقي
فصل
في الإشارة إلى عمومات الخلاف
إن مذاهب الأصوليين في ما يقتضي الفساد قد اضطربت اضطراباً كبيراً؛ فمنهم من ذهب إلى أن مطلق النهي يقتضي الفساد، ومنهم من قال لا يقتضيه، ومنهم من ذهب –وهم الجمهور- إلى النهي المطلق -وهو التحريم- هو الذي يقتضي الفساد.
كما إنهم اختلفوا في المنهيات التي يتعلق بها الفساد؛ فذهب الأكثرون –وهم الجمهور- إلى عموم المنهيات، وخصه بعضهم بالعبادات، وبعضهم بالمعاملات، وبعضهم بهما دون الآداب.
كذلك اختلفوا في ضابطِ الفسادِ أو موجبِهِ ؛ فذهبَ جمهورهم إلى أنه ما رجع إلى ذات المنهي عنه، وشرطه، وزاد بعضهم ركنه، ولازمه، بينما ذهب أَهل الظاهر إلى أَنَّ النهي يقتضي الفساد مطلقا بلا ضابط ولا شرط.
والحديث محكم عام فهو يشمل كلما تعلق به النهي، وعمومات الحديث، برواياته الثلاث تشهدُ لهذا المعنى، بَلَهْ وتقضي به
فصل
في الإشارة إلى أَسباب الخلاف
والسبب في هذا الاختلاف في نظري يرجع للأمور الآتية :
أولاً: عدم الالتزام بالنص الشرعي الدال على حكم المسالة (القانون) وفهمه حسب مقتضاه العلمي الشرعي، والأصولي التطبيقي.
ثانياً: الجنوح إلى المصطلحات المحدثة وفهم النص الشرعي على ضوء هذه المصطلحات الوضعية مما اضطرهم إلى تخصيص العام وتقيد المطلق.
ثالثاً: فهم القانون الشرعي العام، والمبدأ الكلي على ضوء بعض الأمثلة الفقهية، مما كان له سبب واضح في هذا الخلاف وتلك الاضطرابات.
رابعاً: حصر النظر في التطبيق العملي للقاعدة، لاسيما فيما يقتضي الفساد الكلي؛ لأنه المطلب العام عندهم، مما اضطرهم إلى تقييد النهي فيها بالنهي المطلق، لا مطلق النهي.
خامساً: اختلافهم في تحديد ضوابط النهي، كالنهي لذاته، فالبعض يحمله على النهي لوحده، كالشرك والظلم والزنا، وبعضهم يحمله على ما ورد فيه نص خاص حتى وإن تعلق النهي بأمر أخر، وهكذا يقال عن الوصف اللازم والجهة .
فصل
في توضيح صورة القاعدة
ومما سبق يعلم بأنّ «النهي يقتضي الفساد»، قاعدة شرعية صحيحة؛ لكنها مُطَّرِدَةٌ من وجه دون أخر؛ فهي:
أولاً: مُطَّرِدَةٌ في فساد الأمر المنهي عنه دون ما قام به، وسواء كان أمراً أم نهياً، جازماً أو غير جازمٍ؛ فإِنَّ مخالفتهُ تقتضي الفساد.
ثانياً: غير مُطَّرِدَةٍ في فساد الأمر المشتمل على المنهي عنه، على ما سيأتي بيانه وتقريره. ولعل في تصور هذه القاعدة على هذا التفصيل سبباً لفهم صورة القاعدة المجملة في ألفاظها ومعانيها، مما قد يكون له أثرً في قطع النزاع الناتج عن هذا الإجمال، والله تعالى أعلم .
فصل
ذكر النهي الذي يقتضي الفساد
تبين لنا في ما سبق إن النهي الذي يقتضي فساد المنهي عنه هو مطلق النهي فيشمل المحرم والمكروه، أما النهي الذي يقتضي فساد الأمر المشتمل على النهي عبادة كان أو معاملة، فهو النهي المطلق بشرطهِ، وهو ما اقتضى التحريم، سواء كان بفعل منهي، أو ترك واجب، وهو بهذا المعنى يتفق تماما مع مناسبة الحديث ودلالته؛ فقد أطبق العلماء على أن هذا الحديث ورد في النهي عن البدع ومحدثات الأمور، وهذه بدورها تتعلق بالأحكام الشرعية كلها فتأمل هذا وذاك والله سبحانه يتولى هداك .
فصل
في ذكر ضابط من ضوابط ما يقتضي الفساد ذهب إليه بعض أهل العلم
ذهب بعض أهل العلم إلى أن مما يقتضي الفساد هو ما كان فيه النهي نهيا خاص، وقربه بعض أهل العلم بما كان الجمع فيه من الشارع وهذا أوضح. وفائدة هذا الضابط هو إخراج ما كان النهي فيه خارجا أو منفكا عن جهة العبادة أو المعاملة كما في مسألة الصلاة في الأرض المغصوبة إذ أن الجمع فيها ليس من الشرع وإنما هو من العبد فلا يقتضي الفساد إذ لو كان يقتضي الفساد لنهى عنها الشارع الحكيم كما نهى عن الصلاة في الحمام والمقبرة وغيرها؛وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا .
تنبيه: ليس المرادُ بهذا الضابط -وهو النهي الخاص أو ما كان الجمع فيه من الله تعالى- قصرَ ما يقتضي الفسادَ عليه؛ إذ إن ما يقتضي الفساد اعم من ذلك بكثير؛ فترك الشروط والأركان وبعض الواجبات يبطل العبادة باتفاق، ومع ذلك لم يأت نهي شرعي خاص بالنهي عنها, نعم جاءت بذلك أوامر شرعية خاصة تدل على هذه الأحكام، وهذا إن دل فإنما يدل على أن المراد بالنهي هو النهي الشرعي العام، فقصرُ ما يقتضي الفساد على ما كان فيه النهي نهيا خاصا ( أَو الجمع من الله تعالى) تخصيص لعموم الحديث بلا حجه ظاهرة، ولا بينة قائمة .
نعم إن النهي الخاص يدل على الفساد قطعا؛ لان الذي دلنا على الفساد فيه هو الشارع الحكيم؛ فقد أكد دلالة النهي العام بالنهي الخاص، زيادة في التوكيد والتوضيح والبيان، وحرصا على مصلحة العباد، كما قال سبحانه: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌالنساء /176. وهذا الجمع من البيان الخاص ولاشك .
ويبقى ما دل عليه الحديث من النهي العام على مقتضاه الشرعي من الرد والرفض، إلا أن تأتيَ بينة واضحة من الشرع تخصه بالرضا وتحفهُ بالقبول، والله تعالى أعلم .
فصل
في اختلاف العلماء في بيان علة الفساد الك
ذهب أَكثر أَهل العلم إلى أن علة الفساد الكلي هي النهي؛ ولذا رسموا صورة القاعدة على ما هو مشهور في مصنفاتهم بأنَّ « النهي يقتضي الفساد »، ولكن حصل الخلاف-تنظيراً وتطبيقاً- في معنى النهي المراد، فذهب بعضهم إلى أن المراد بالنهي هو النهي الاصطلاحي الخاص، بينما ذهب أكثرهم –تصريحا أو إشارة- إلى أن المراد به ما اقتضى التحريم، أمرا كان أو نهيا، وقد وضع الجميع-عدا الظاهرية- ضوابطاً لما يقتضي الفساد. والذي يميل إليه الباحث أن ما يقتضي الفساد الكلي هو هذا القول، ولكن بضوابط شرعية مستقرأة من أقوال أهل العلم وتطبيقاتهم. قابلةً للزيادةِ والمناقشة، وهذه الضوابط هي:
أولاً: أن يكون مقتضى النهي هو التحريم؛ سواء أكان النهي نهياً خاصاً أو عاماً؛ بفعلٍ محرمٍ أو تركِ واجبٍ.
ثانياً: أن لا يكون النهيُ من التروك التي تفتقرُ إلى النية؛ كإيفاء الديون، وإزالة النجاسة بروث أو عظم وغيرها.
ثالثاً: أن لا يأذن، أو يعفو صاحب الحق عما علقهُ الشارع على إذنهِ، وعفوهِ،كخطبة المسلم على أخيهِ، وأنواع الغش والغرر.
رابعاً: أن لا يأتي نص خاص من الشرع الحكيم يقضي بعدم الفساد؛ كالطلاق البدعي، على القول الذي نرتضيهِ.
هَذَا نِتَـاجُ الفِكْرِ في الدَّلِيْلِ
فيما اقْتَضَاهُ النَّهيُّ في الأصُوْلِ
فَقِلْ رَعَاكَ اللهُ عَثْرَتي وَقُلْ
ليس عَلَىْ المُحْسِنِ مِنْ سَبِيْلِ
هذا والله تعالى أعلى وأعلم،
وصلى الله على عبده ورسولهِ محمد،
وآلهِ وصحبهِ وسلم تسليماً كثيراً.
د. أبو محمد الموصلي.. منتصف رجب الخير 1430هـ