إِلى الفَرقِ بينَ المَهْرِ المُؤَجَّلِ وَشَرطِ الجَزَاء
الحمدُ لِلَّهِ الَّذِي فَرَضَ الصَّدَاقَ مُعَجَّلَاً وَمُؤَجَّلاً، وَقَيَّدَهُ فِي ذِمَّةِ الأَزوَاجِ دَيْنَاً مُسَجَّلاً، والصَّلاةُ والسَّلامُ على نَبِيِّ هذِهِ الأُمَّةِ مًوَقَّرَةً وَمُبَجَّلاً، وَعَلى آلِهِ وَصَحبِهِ نِعْمَ الأُلَى.
وَبَعَدُ ..
فَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ إِخوانِنَا مِن طَلَبَةِ العِلْمِ إِلى أَنَّ المَهرَ المُؤَجَّلَ فِي عُرْفِ أَهلِ العِراقِ ما هُوَ إِلَّا شَرطٌ جَزَائِي؛ وأَلَّفَ رِسَالَةً فِي ذَلكَ، وَهُوَ قَولٌ قَوِيٌّ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَلَكِنَّ الحَقَّ أَقْوَى وَأَوجَه، وَقُبُولُهُ أَرْجَى وَأَنْجَى.
وَقد ذَكَرَ عن أَهلِ العِلمِ أَنَّ الصَّداقَ نوعانِ: صَدَاقٌ مُقَدَّمٌ وَصَدَاقٌ مُؤَخَّرٌ، وَأَنَّ مِنَ (الصَّدَاقِ المُقَدَّمِ) مَا يُسَمَّىْ بِـ(مُؤَخَّرِ الصَّداقِ)؛ وَهوَ مَا أُخِّرَ قَبْضُهُ عَنْ الْعَقْدِ؛ وَهوَ نَوعانِ أَيضاً : نوعٌ مُطلقٌ لم يُحَدَّدْ لَهُ أَجَلٌ؛ مَتَى شَاءَتْ الزَّوجَةُ طَالَبَتْهُ بِهِ، وَنَوعٌ مُؤَجَّلٌ إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ؛ فَلا يَحِقُّ لهَا أَنْ تُطَالِبَ بِهِ قَبلِ أَجَلِهِ.
أَمَّا (الصَّدَاقُ المُؤَخَّرُ) فَهُوَ غيرُ (مُؤَخَّرِ الصَّدَاقِ)، وَإِنَّمَا هُوَ صَدَاقٌ أَخَرٌ مُؤَخَّرٌ شَبِيْهٌ بمُتْعَةِ النِّسَاءِ أَوْ هُوَ هِيَ؛ تَسْتَحِقُّهُ الزَّوجَةُ عِندَ حُلُولِ أَحَدِ الأَجَلَينِ.
وقد اجْتَهَدَ – أَثَـابَهُ اللهُ خَيْرَاً - لأَسَبَابٍ ذكرَهَا فِي رِسَالَتِهِ -؛ فَعَدَّ الصَّدَاقَ المُؤَخَّرَ شَرطَاً جَزَائِيَّاً تَسْتَحِقُّهُ المَرأَةُ عِندَ الطَّلاقِ فَقَطْ . وَذكَرَ أَنَّ هذا هُوَ المعروفُ عِندنا في العِراقِ عُرفَاً، وَهُوَ المشرُوطُ شَرطَاً.
والأَخُ الكريمُ لم يأْتِ بِشَيءٍ - على أَهَمِّيَّةِ مَا جاءَ بِهِ - غَيرِ تَخصِيصِ عُرفِ السَّلَفِ؛ حيثُ كانَ مُقَيَّدَاً بِأَحَدِ الأَجَلَينِ، فَصَيَّرَهُ بِأَجَلٍ وَاحِدٍ...! .
وَلَيْتَهُ انتَهَى بِقَولِهِ إِلَى هذا القَولِ، وَاكتَفَى بِهَذِهِ النَّتِيْجَةِ، وَلَكِنَّهُ ذَهَبَ إِلَىْ عَدِّ هَذَا الأَجَلِ شَرطاً جَزَائِيَّاً، وَالعَجِيبُ أَنَّهُ نَقَلَ عَنِ ابنِ القَيِّمِ قَولَهُ فِي إِعلامِ المُوَقِّعِينَ: " أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي تَأْجِيلِ بَعْضِ الْمَهْرِ وَحُكْمُ الْمُؤَجَّلِ:
الْمِثَالُ التَّاسِعُ: الْإِلْزَامُ بِالصَّدَاقِ الَّذِي اتَّفَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا أَجَلًا، بَلْ قَالَ الزَّوْجُ: مِائَةٌ مُقَدَّمَةٌ وَمِائَةٌ مُؤَخَّرَةٌ، فَإِنَّ الْمُؤَخَّرَ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهِ إلَّا بِمَوْتٍ أَوْ فُرْقَةٍ، هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ مَنْصُوصُ أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ لَا يَحِلُّ الْآجِلُ إلَّا بِمَوْتٍ أَوْ فُرْقَةٍ، وَاخْتَارَهُ قُدَمَاءُ شُيُوخِ الْمَذْهَبِ وَالْقَاضِي أَبُو يَعْلَى، وَهُوَ اخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، وَهُوَ قَوْلُ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ " اعْلامُ المُوَقِّعِينَ (3/68).
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ هذا هُوَ الرَّاجِحُ فِي [فَتَاوَى الصَّحَابَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ]
"وَالصَّحِيحُ مَا عَلَيْهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَعَدَمِ تَمْكِينِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِهِ إلَّا بِمَوْتٍ أَوْ فُرْقَةٍ، حَكَاهُ اللَّيْثُ إجْمَاعًا مِنْهُمْ، وَهُوَ مَحْضُ الْقِيَاسِ وَالْفِقْهِ".
قُلْتُ: انْظُرْ كَيْفَ سَمَّوْهُ كُلُّ هَؤُلاءِ - وَهُمْ سَلَفُ هَذِهِ الأُمَّةِ - مَهرَاً وَصَدَاقَاً، وَلَمْ يَجعَلْهُ واحِدٌ مِنهُم شَرطَاً لِفُرقَةٍ أَو مَوتٍ؛ فَضلاً عَنْ أَنْ يُسَمِّهِ شَرْطَاً جَزَائِيَّاً ..!!، عِلْمَاً أَنَّ هَذا الصَّدَاقَ كَانَ مَشْرُوطَاً عِنْدَهُمْ بِحُلُولِ أَحَدِ الأَجَلَينِ.
فإِنْ قِيلَ : هُوَ فِي عُرفِهِمْ كانَ صِدَاقَاً وَأَمَّا فِي عُرفِنا فقد أَصبَحَ شَرطَاً جَزَائِيَّاً ..!
فالجَوَابُ عَنهُ مِن وَجهَينِ:
الأَول : أَنَّ الصَّدَاقَ المُؤَخَّرَ هُوَ دينٌ في الذِّمَّةِ، وَقد كَانَ فِيْ عُرفِ السَّلَفِ - وَلا زالَ فِي عُرفِنَا -، مُقَيَّدَاً بِأَحَدِ الأَجَلَينِ؛ وَلَمْ يُخْرِجُهُ ذَلِكَ عن كونِهِ دَينَاً فِي الذِّمَّةِ، يَجِبُ الوَفَاءُ بِهِ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ مِنْهُ، وَيَجِبُ إِخْرَاجُهُ مِنَ التَّرِكَةِ قبلَ تَقسِيمِهَا، وَغَيرُ ذَلِكَ مِنَ أَحْكَامِ الدِّيُونِ، فَكَذَلِكَ تَقْيِيدُهُ – إِنْ صَحَّ - بِالطَّلاقِ فَقَطْ..!!؛ كَونهُ أَحَدَ الأَجَلَينِ.
وَأَمَّا القَرَائِنُ الَّتِي ذَهَبَ بِهَا إِلَى عَدِّ الصَّدَاقِ مِنَ الشُّرُوطِ الجَزَائِيَّةِ وَعِنْدَ الطَّلاقِ فَقَطْ؛ فَضَعِيفَةٌ فِي المِعْيَارِ العِلْمِي؛
وَمِنْهَا : أَنَّ المَرْأَةَ وَأَوْلَيَاءَهَا لا يُطَالِبُونَ بِهِ إِلَّا عِندَ الطَّلاقِ فَقَطْ.
قُلْتُ: وَهذا أَمرٌ عَادِيٌّ؛ لِشِدَّةِ غَضَبِهِمْ وَحَنَقِهِمْ على الزَّوجِ؛ وَكَذَلِكَ يَفْعَلُوْنَ عِنْدَ الدُّيُونِ، وَلا سِيَّمَا دَيْنُ الصَّدَاقِ المُؤَخَّرِ؛ فَهُوَ مِنَ الدُّيُونِ الضَّعِيفَةِ؛ لِكُثرَةِ تَسَامُحِ النَّاسِ فِيهِ، وَلِبُعْدِ أَجَلِهِ، وَلِجَهْلِ النَّاسِ بِحُكْمِهِ، وَلاسِيَّمَا النِّسَاءُ؛ كَوْنِهِنَّ أَصْحَابَ الحَقِّ فِيهِ.
وَمِنْهَا : أَنَّ الرِّجَالَ لا يُبَالُوْنَ بِعَظَمِ قِيْمَتِهِ عِندَما يُقْبِلُونَ على الزَّوَاجِ.
قُلْتُ : لِأَنَّهُ دَيْنٌ مُعَلَّقٌ بِالطَّلاقِ؛ وَهُمْ لا يَرَوْنَهُ ابْتِدَاءً؛ وَذَلِكَ لِشَدَّةِ رَغْبَتِهِمْ بِالزَّوَاجِ، وَرُبَّمَا بِالزَّوجَةِ.
الثَّاني: أَنَّ العُرفَ مُضطَرِبٌ فِي هذا البَابِ وَغَيرُ مُستَقِرٍ؛ وَذَلِكَ لِتَعَلُّقِهِ بِالمَقَاصِدِ وَالنِّيَاتِ؛ وَهُمَا بِدَورِهِمَا مُتَعَلِّقَانِ بِالعُلومِ وَالإِرَادَاتِ، فَمَا يَعْلَمُهُ زَيدٌ مِنَ النَّاسِ لا يَعْلَمُهُ عَمْرٌو، وَمَا يُرِيْدُهُ لا يُرِيْدُهُ، وَلَيسَ مِنَ العِلْمِ وَالإِنْصَافِ إِلزَامُ النَّاسِ بِعُرْفِ بَعْضِهِمْ؛ فَضْلاً عَمَّا فِي ذَلِكَ مِنْ إِجْحَافٍ فِي حُقُوقِ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ مَعَاً.
وَهَا هُنَا تَنبِيهَاتٌ مُهِمَّاتٌ:
أَوَّلاً: إِنَّ الأَعرافَ الوَضعيةَ لا تُغَيِّرُ الأَحكامَ الشَّرعِيَّةَ، وَلَكِنَّهَا قد تُغَيِّرُ بَعضَ مُتَعَلِّقَاتِ الحُكْمِ، وَأَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ فَلا تُغَيِّرُهُ؛ وَالصَّدَاقُ حُكْمٌ شَرعِيٌّ؛ وَلِذَا عَدَّهُ بَعْضُ أَهلِ العِلْمِ شَرْطَاً فِي النِّكَاحِ، وَأَلْزَمَ الشَّرْعُ عِندَ عَدَمِ التَّسْمِيَّةِ لَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ. وَعَلَيهِ؛ فَلا يَجُوزُ عَدُّ الصَّدَاقِ المُؤَخَّرِ شَرْطَاً جَزَائِيَّاً.
ثَانِيَاً: إِنَّ الجَهْلَ بِالحُكْمِ لا يَعْفِي صَاحِبَهُ مِنْ لَوَازِمِ الحُكْمِ وَتَوَابِعِهِ؛ فَكُونُ بَعْضِ النَّاسِ لا يَعلَمُ أَنَّ الصَّدَاقَ المُؤَخَّرَ دَيْنٌ فِيْ الذِّمَّةِ؛ لا يَعْفِيهِ مِنَ الأَحْكَامِ المُتَعَلِّقَةِ بِالدِّيُونِ؛ مِنْ وُجُوْبِ الوَفاَءِ بِهِ، وَجَوَازِ المُطَالَبَةِ بِهِ عِندَ أَجَلِهِ، وَوُجُوبِ الزَّكَاةِ فيهِ، وَغَيْرُهَا؛ وَلا سِيَّمَا مَعَ تَسْجِيلِهِ بِلَفْظِ الصَّدَاقِ المُؤَخَّرِ، وَتَقْيِيدِ وَقْتِهِ بِأَحَدِ الأَجَلَينِ.
ثَالِثَاً: إِنَّ النِّيَّةَ المُرَافِقَةَ لِلَفْظِ الصَّدَاقِ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ العُرْفِ؛ فَلا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَيهَا؛ فَجَمِيعُ النَّاسِ يُسَمُّوهُ مَهْرَاً وَصِدَاقَاً، وَأَكثَرُهُمْ يَعلَمُ مَا يقولُ؛ فَيَسْتَحْضُرُ نِيَّةَ المَهْرِ، لا نِيَّةَ الشَّرطِ الجَزَائِي.
رَابِعَاً: لا عِبْرَةَ بِاعتِقَادِ النَّاسِ أَو عُرْفِهِمْ إِذا خَالَفَ الحُكْمَ الشَّرعِيِّ؛ فَقَدْ يَكُونُ الكَثِيرُ مِنَ النَّاسِ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الصَّدَاقَ المُؤَخَّرَ هُوَ مَا يَجِبُ دَفْعَهُ مِنْ قِبلِ الرَّجُلِ لِلْمَرْأَةِ بَعْدَ الطَّلاقِ أَوْ فَسْخِ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَهَذَا الأَمرُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لأَنَّ الصَّدَاقَ المُؤَخَّرَ حَقٌّ تَسْتَحِقُّهُ الزَّوْجَةُ مِنْ زَوْجِهَا كَامِلاً مِنْ بَعْدِ الدُّخُولِ عَلَيهَا، وَهُوَ يَبْقَى فِي ذِمَّةِ الرَّجُلِ دَينٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ المَرأَةِ.
خَامِسَاً: إِنَّ الصَّدَاقَ لَمَّا كَانَ مُؤَجَّلاً إِلى أَقرَبِ الأَجَلَينِ؛ تَعَلَّقَ النَّاسُ بِالطَّلاقِ دُوْنَ الوَفَاةِ؛ لِكَوْنِهِ مَظَنَّةَ التَّنَازعِ وَالمُطَالَبَةِ بِالحُقُوقِ؛ بِخِلافِ المَوْتِ؛ فَهُوَ مَظَنَّةُ العَفْوِ وَالمُسَامَحَةِ؛ وَلِذَا رُبَّمَا جَرَتِ العَادَةُ وَالعُرْفُ عِنْدَنا بِالمُطَالَبَةِ بِهِ عِندَ الطَّلاقِ دُونَ الوَفَاةِ؛ فَإِنَّ " الْمُطْلَقَ مِنْ الْعُقُودِ -كَمَا قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ - يَنْصَرِفُ إلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ عِنْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ... وَالْعَادَةُ جَارِيَةٌ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ بِتَرْكِ الْمُطَالَبَةِ بِالصَّدَاقِ إلَّا بِالْمَوْتِ أَوْ الْفِرَاقِ، فَجَرَتْ الْعَادَةُ مَجْرَى الشَّرْطِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْأَمْثِلَةِ بِذَلِكَ" إِعْلامُ المُوَقِّعِينَ (3/69).
سَادِسَاً: إِنَّ الأَصْلَ فِي الشُّرُوطِ الجَزَائِيَّةِ أَنْ تَكونَ تَابِعَةً لِعُقُودٍ وَأَحْكَامٍ مُسْتَقِلَّةٍ، فَهِيَ فُرُوعٌ لِأُصُوْلٍ وَمُتَمِّمَاتٌ لِعُقُودٍ، ولا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُ ِفَرْعٍ بأَصْلٍ، وَلا شَرْطٍ بِعَقْدٌ.
سَابِعَاً: إِنَّ الأَصْلَ فِي الشَّرْطِ الجَزَائِي أَنْ يَكُونَ غَرَامَةً تُدْفَعُ لِضَرَرٍ يَنْتُجُ عَنْ تَقْصِيرٍ مَا يَكُوْنُ مِنْ أَحَدِ المُتَعَاقِدَينِ . فَإِنْ كانَتِ الغَرَامَةُ هِيَ الصَّدَاقُ المُؤَخَّرُ، وكَاَن َالضَّرَرُ هُوَ طَلاقُ المُرأَةِ؛ فَأَيْنَ التَّقْصِيرُ الَّذِي جَنَاهُ هذا الزَّوْجُ المِسْكِينُ إِذَا مَا كانَ الطَّلاقُ مُبَاحَاً؛ فَضْلاً عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيْ حَقِّهِ مُسْتَحَبَّاً أَوْ وَاجِبَاً ...؟!.
ثَامِنَاً: إِنَّ الأَصْلَ فِي تَشْرِيعِ الشَّرْطِ الجَزَائِي هُوَ لِتَثْبِيتِ الحُقُوقِ، وَدَفْعِ التَّقْصِيرِ عَنِ العُقُودِ، فإِذا عاد الشَّرْطُ الجَزَائِي على أَصْلِهِ بِالْمَنْعِ، وَعَلَىْ مُتَعَلِّقِهِ بِالإِلغْاءِ؛ فَلا يُعَدُّ شَرْطَاً صَحِيحَاً. وَأَنَّ مِمَّا يُسْتَفَادُ مِنْ الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَيْهِ «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»؛ - كَمَا يَقُوْلُ ابْنُ حَجَر فِيْ الفَتْحِ (5/324) - : "أَنَّ كُلَّ شَرطٍ وَقَعَ فِيْ رَفْعِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ"؛ وَصَدَاقُ المَرأةِ حَقٌ مِنْ حُقُوقِهَا، وَهُوَ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ اللهِ، وَحَدٌّ مِنْ حُدُوْدِهِ وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ على أَنَّ كُلَّ شَرطٍ خَالَفَ مُقْتَضَى العَقْدِ فَهُوَ بَاطِلٌ . وَمِنْ مُقْتَضَى عَقْدِ النِّكَاحِ اسْتِحْقَاقُ المَرأَةِ لِلصَّدَاقِ مُطْلَقَاً بلا شَرْط.
تَاسِعَاً: وَقَدْ عَلِمَ اللهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ - أَنَّهُ سَتَكْثُرُ هَذِهِ الشُّرُوطُ فِي بَابِ النِّكَاحِ، وَمِنْهَا الصَّحِيحُ وَمِنْهَا الفَاسِدُ، فَأَخْبَرَنَا على لِسَانِ نَبِيِّهِ الكَرِيمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشَّرْطِ الجَامِعِ المَانِعِ فِي هذا البَابِ؛ وَالَّذِي تُعْلَمُ بِمَوَافَقَتِهِ أَوْ مُخَالَفَتِهِ الشُّرُوطُ الصَّحِيحَةُ وَالفَاسِدَةُ؛ فَهُوَ الضَّابِطُ فِيْ مَعْرِفَةِ الشُّرُوطِ في كِتَابِ النِّكَاحِ والطَّلاقِ . فَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قالَ : «إنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوَفُّوا بِهَا مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ».
عَاشِرَاً: وَهَذا مَا وَرَدَ في أَحْكَامِ المَادَّةِ (21) مِنْ قَانُونِ الأَحْوَالِ الشَّخْصِيَّةِ؛ حَيْثُ نَصَّتْ على أَنَّهُ (تَسْتَحِقُّ الزَّوْجَةُ كُلَّ المَهْرِ المُسَمَّى بِالدُّخُولِ أَوْ بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوجِينِ، وَتَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْمَهْرِ بِالطَّلاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ).
فَهَذِهِ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ يَتَقَرَّرَ بِهَا وَبِمَا سَبَقَهَا أَنَّ الصَّدَاقَ مُعَجَّلاً كانَ أَوْ مُؤَجَّلاً هُوَ حَقٌّ ثَابِتٌ لِلْمَرأَةِ، كَحَقِّهَا فِي ثَمَنِ سِلْعَتِهَا الَّتِيْ بَاعَتْهَا؛ فَلا يَسْقُطُ حَقَّهَا فِيْهِ إِلَّا بِطِيْبِ نَفْسٍ مِنْهَا، وَعُلِمَ أَنَّهُ لا يُمْكِنُ أَنْ يُقَاسَ الصَّدَاقُ المُؤَخَّرُ على مَا يُسَمَّى بِالشَّرْطِ الجَزَائِي؛ لأَنُّهُ دَيْنٌ فِيْ ذِمَّةِ الزَّوْجِ بِإقْرَارِهِ على نَفْسِهِ، وَشَهَادَةِ الشُّهُودِ، وَكِتَابَتِهِ بَيْنَ يَدَي القَاضِيْ. وَاللهُ أَعلى وَأَعلم
وَصَلَّىْ اللهُ عَلَىْ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ وَعَلَىْ آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
وكتبَ : د. أبو محمد الموصلي .. الاثنين
22 / جمادى الأَخِرة / 1441هـ، الموافق 16/2/2020.