الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ؛ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ؛ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .
وبعد ..
فلا زال البعض يدندن حول هذه الشنشنة (الأدبُ مقدمٌ على الامتثال)..!؛ كي يلبس على الناس دينهم؛ فيسوِّقُ للبدع بهذا الشعار الزائف، ولا يعلم هذا المسكين أن (( الأدب هو الامتثال)) .
وها أنا ذا أسوق لكم بعض الأدلة وأقوال أهل العلم مع بعض الملح على ذلك .
🔲 أولاً : تأصيل المسألة وتبويبها :
قال الإمام الفقيه العلامة الألباني - رحمه الله - في كتابه ( أصل صفة الصلاة ) ( 3 / 945 ) : " وهذا يقرب من مسألة أصولية؛ وهي: أن الأدب أحسن، أم الاتباع والامتثال؟
ورجح الثاني؛ بل قيل: إنه الأدب " .
قلت : ويمكن تبويبها في باب ( هل تتعارض محبة الرسول صلى الله عليه وسلم مع طاعته واتباعه ..؟!) والجواب : أنه لا تعارض البتة .
🔲 ثانياً : مثال ذلك عند العلماء :
قال الإمام الألباني رَحِمَهُ اللهُ في شرحِه لباب (هل يقول : سيدي ..؟) مِن كتاب "الأدب المفرد" للإمام البخاري :
فمثلاً " (السِّيَادة) في الصَّلوات الإبراهيميّة؛ موضعُ خِلاف بين الحنفيّة والشافعيّة؛ فالحنفيّة يقولون: إن لفظة السِّيادة لم تأتِ في التعليم النبويّ لأصحابه للصلاة عليه .
والشافعية يَعترفون بهذا، لكن يقولون: أدبًا معَ الرسولِ عليه السّلام؛ نأتي بلفظةِ (السيد) .
ونحن نَرى أنّ الصوابَ مع الحنفيّة، -طبعًا- لا لأني نشأتُ على المذهبِ الحنفيّ، فكلُّكُنَّ يَعلم بأني لا تعصُّب عندي، وإنما نتعصَّب للكتاب والسُّنّة، فأقول أنَّ الصواب مع الحنفيّة، ذلك لأنّ بعضَ العلماء الأذكياءِ حينما تَعَرَّض لبيانِ الخلافِ في هذه المسألة بين الحنفيّة والشافعيّة، فالأحناف آثَروا الاتِّباعَ على الأدب الذي يأتي به الإنسانُ مِن عندِ نفْسِه، والشافعية آثَروا الأدبَ على الاتِّباع، فالاتِّباعُ سَمّاه الأحنافُ بالامْتِثال، ويَعْنون بذلك أو يشيرون بذلك إلى أنّ الله عَزَّ وَجَلَّ حينما أنزل قولَه في القرآن : {إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]؛
قال أصحاب النبيِّ: يا رسولَ الله! هذا السَّلامُ قد عرفناه، فكيف الصلاةُ عليكَ؟
قال: «قُولُوا: اللَّهُمَّ! صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ» إلخ الصلوات الإبراهيمية، فهذا هو الأمر.
فقال الأحناف: الامتثالُ خيرٌ مِنَ الأدب، يعني: خيرٌ مِن زيادةِ لفظةِ (السيد) .
الشافعية قالوا –كما سمعتُنَّ -: لا؛ الأدب خيرٌ مِنَ الامتثال .
فجاء بعضُ أذكياءِ العلماءِ حينما تَعرَّض لهذا الخلاف، فقال :(( بلِ الامتثالُ هو الأدب )) . فقضى على الخلاف بكلمةٍ مختصرَة مفيدة .
وهذا لا شك فيه حينما يفكِّر الإنسان في هذه الجملة .
🔲 ثالثاً : زيادة توضيح وبيان :
ثم زاد رحمه الله البيان والتوضيح لهذه المسألة بضرب أمثلة أخرى؛ فقال : ” وأنا أضرب لكُنّ مثلاً، لتَفْهمْنَ أنّ الامتثالَ هو الأدب، ومخالفةُ الامتثالِ هي قِلَّةُ الأدب، عكس ما يظنُّ كثيرٌ مِنَ الناس : إذا كان مِنَ الأدبِ تعظيمُ الرسولِ عليه السَّلام بلفظةٍ نحن نُضيفها إلى التعليمِ النبويّ؛ إذًا؛ أَولى وأَولى أن نُعظّم اللهَ عَزَّ وَجَلَّ، وأن نتأدَّبَ معه بلفظٍ نُضيفُه نحن مِن عند أنفُسِنا في التعليم النبويِّ، فهو عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مثلاً يقول -والصلواتُ الإبراهيمية لها علاقة بالصلاة، فلنأتِ بمثَلٍ آخر له علاقة بالصلاة : «إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ -في التشهُّد- فَلْيَقُل ْ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ»إلخ التشهُّد المعروف، فما رأيُ عقلاءِ المسلمين إذا جاء إنسانٌ وسَمِعَ تلك العبارة (الأدب خيرٌ من الامتثال)، والرسول قال: "قولوا: التحيات لله...." إلخ، فقال : ما دام الأدب خيراً مِن الامتثال؛ فأنا سأقول: التحيات للهِ (تعالى)، أو: التحيات لله (سبحانه وتعالى)، أو: التحيات لله (عَزَّ وَجَل)َّ، والطيبات، السَّلام عليك أيها النبيُّ ورحمة الله (عَزَّ وَجَل)َّ .. إلخ .
سيطلعُ معنا تشهُّد غريبٌ بعيدٌ عن تعليمِ الرسول عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ .
وهكذا قُلْ عن كُلِّ تعليمٍ إذا ما أردْنا أنْ نُدْخِلَ فيه ((عَقْلَنا وأَدَبَنا البارِد))، فذلك سيؤدِّي بنا إلى تغييرِ شريعةِ الله عَزَّ وَجَلَّ التي جاء بها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لذلك؛ فالامتثالُ هو الأَدب .
فالصلاةُ على الرسولِ عليه السَّلام نتْلوها كما عَلّمنا إياها، بدون زيادة مِن عندنا، ولكن في الوقت نفسه أقول: لا مانع عندي إذا قلتُ أحيانًا: "قال سيدُنا رسول الله كذا وكذا"؛ لبيان أنه سيّدُنا فعلاً، كما ذكرنا في الأحاديث السابقة، أما في الأوراد التي جاءت عن الرسولِ عليه السّلام محفوظةً بالحرفِ الواحد؛ فلا يجوز فيها الزيادةُ، كما لا يجوز منها النقصُ، ولهذا تقول العامّة: الزائد أخو الناقص" إنتهى .
🔲 رابعاً : تقرير المسألة :
و قال رَحِمَه اللهُ أيضًا في " أَصل صفة صلاة النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" (3/ 942 - 945) :
"والذي نعتقده ونَدين الله تعالى به أن نبينا محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو سيِّدُنا، بل هو سيِّدُ كلِّ آدميٍّ، شاء أم أبى؛ كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ الْقَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ».
رواه مسلم (7/59) ، وأحمد (2/540) من حديث أبي هريرة
والذي ينبغي البحثُ فيه هو النظرُ في جوازِ زيادة هذه اللفظة فيما شرعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمته مِن صِيغ التشهد، والصلوات الإبراهيمية؛ التي أمر بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على كيفيّات مختلفة، وليس في شيءٍ منها هذه اللفظة -كما رأيت-؛ ولذلك فإنّا نَقطع بأنّ الحقَّ مع المانعين مِن ذلك؛ لأننا نعتقد أنّ زيادة هذه اللفظة لو كانت مما يُقرِّبُنا إلى الله زُلفى؛ لأمرنا بها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولَما أغفل أمْرَها؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «ما تركتُ شيئُا يُقرِّبُكم إلى الله تعالى؛ إلا وأمرتُكم به». رواه الطبراني بإسناد صحيح .
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَىظ° خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شَرَّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ» الحديث . رواه مسلم (6/18) من حديث ابن عمرو" .
ثم قال : "هذا، ونحن نعلم أنّ السلفَ الصالح مِن الصحابة والتابعين لم يكونوا يتعبَّدون الله تعالى بتسويدِه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلاة، وهم قطعًا أشدُّ تعظيمًا له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنّا، وأكثرُ له حُبًّا، ولكن الفرق بينهم وبيننا أنّ حُبَّهم وتعظيمَهم عمليٌّ باتِّباعه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ كما هو نصُّ قوله تعالى : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ}. وأمّا حُبُّنا؛ فلَفظيٌّ شَكليّ .
فإذا كان السلف لم يتعبدوا بذلك؛ فليس لنا أن نَفعل . وقد قال حذيفة بن اليمان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : ” كلُّ عبادةٍ لم يتعبَّدْها أصحابُ رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فلا تَعبَّدوها “ .
وقال ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : ” اتَّبِعوا، ولا تَبتدِعوا؛ فقدْ كُفِيْتُم، عليكم بالأمرِ العتيق “ .
والأمر العتيق : هو الاقتصار على ما صَحَّ عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الأوراد والأذكار؛ بدون أدنى زيادة، مهما كان نوعُها، ولذلك قال الحافظ : " اتباع الآثار الواردة أرجح، ولم تنقل -يعني: لفظة السيادة- عن الصحابة والتابعين، ولم تُرو إلا في حديث ضعيف عن ابن مسعود، ولو كان مندوبًا؛ لَمَا خَفي عليهم" .
🔲 خامساً : ومن طريف العلم ما حكاه الشيخ أبو إسحاق الحويني حفظه الله، أن من بين أبرز فوائد زيارته للعلامة الألباني -رحمه الله-، أن هذا الأخير تغيب يوما عن صلاة الصبح، و كان من المفترض أن يكون لقاء العلامة الألباني بالشيخ الحويني بعد صلاة الصبح، فلم يرد الشيخ الحويني أن يدع هذا اليوم دون استفادته منه خصوصا و أن أيامه معدودات في الأردن .
فسأل تلاميذ الشيخ هل يذهب إلى منزله للإطمئنان عليه، فقالوا له لا ننصحك بذلك، خصوصا و أنك جديد مع الشيخ، ربما زيارتك تزعج الشيخ، فالأفضل لك أن لا تفعل .
و كان الشيخ أبو إسحاق الحويني لا يهمه ذلك و تذكر ما وقع لابن حبان مع شيخه ابن خزيمة رحمة الله عليهما أن ابن حبان أكثر مجالسة ابن خزيمة حتى جاء يوما و قد أزعجه ابن حبان فقال له "تنحى عني يا بارد" فقام ابن حبان و كتب ما قاله ابن خزيمة و كان يقول لا أدع شيئا عن الشيخ إلا كتبته. فقال الشيخ أبو إسحاق فإذا قال لي الشيخ الألباني تنحى عني يا بارد لجعلتها من فوائد اليوم.
إلا أن اليوم كان أفضل أيام الرحلة على الإطلاق حيث ذهب إلى منزل الشيخ مع رفيقه، فرحب بهما في حديقة منزله و كان وقت الفطور، فكان كلما الشيخ يأتي بطعام، قام الشيخ أبو إسحاق لكي يخدم العلامة الألباني و يأخذ منه الطبق، لأنه رأى من قلة الأدم أن يخدمه الشيخ، فكان يقول له "إجلس"، تكرر ذلك ثلاث مرات حتى قال في الثالثة "إجلس" بصوت عال و كما قال الشيخ أبو إسحاق "كأنه نهرني فستحييت و لم أستطع رفع رأسي"
بعد ما جلس العلامة الألباني رحمه الله، قال للشيخ أبي إسحاق الحويني حفظه الله: "الامتثال هو الأدب بل خير من الأدب "
بعد هذا المجلس قال الشيخ أبو إسحاق الحويني: أصبحت محبا للسنة بعدما كنت محبا للحديث .
فرحم الله العلامة محمد ناصر الدين الألباني وحفظ الله شيخي أبا إسحاق الحويني .
🔲 سادساً : قول ابن عثيمين رحمه الله في المسألة :
قال العلامةُ العثيمين رَحِمَهُ اللهُ تعالى في جوابه عن حُكم زيادة (سيّدنا) في الصلوات الإبراهيمية:
"وبهذه المناسبة أودّ أن أنبِّه إلى أنّ كلَّ إنسان يؤمن بأن محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيّدُنا؛ فإنّ مقتضى هذا الإيمان أنْ لا يتجاوزَ الإنسانُ ما شَرعه، وأن لا ينقص عنه، فلا يبتدع في دِين الله ما ليس منه، ولا ينقص مِن دين الله ما هو منه، فإنّ هذا هو حقيقةُ السِّيادةِ التي هي مِن حَقِّ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا .
وعلى هذا؛ فإنّ أولئك المبتدعين لأذكار أو صلوات على النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يأت بها شرعُ الله على لسان رسولِه محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنافي دعوى أنّ هذا الذي ابتدع يَعتقد أنّ محمدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سيِّد؛ لأن مقتضى هذه العقيدة: أن لا يتجاوز ما شرع وأن لا ينقص منه.
فليَتأمَّلِ الإنسانُ ولْيتدبَّرْ ما يَعنيه بقوله، حتى يتضحَ له الأمرُ، ويعرفَ أنه تابِعٌ لا مشرِّع"
"مجموع فتاوى ورسائل العلامة العثيمين" (3/ 111).
🔲 سابعاً : شبه والجواب عنها :
وهذه الشبه كانت هي السبب في كتابة هذا المقال؛ فقد ذكر لي أحد الإخوة أن أحد شيوخ المتصوفة ذكر شبهتين على مقالتهم الآنفة الذكر (الأدبُ مقدمٌ على الامتثال)..! .
◀ الأولى : حديث ﺳﻬﻞ ﺑﻦ ﺳﻌﺪ اﻟﺴﺎﻋﺪﻱ :
" ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺫﻫﺐ ﺇﻟﻰ ﺑﻨﻲ ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ ﻋﻮﻑ ﻟﻴﺼﻠﺢ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﻓﺤﺎﻧﺖ اﻟﺼﻼﺓ ﻓﺠﺎء اﻟﻤﺆﺫﻥ ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻲ ﺑﻜﺮ ﻓﻘﺎﻝ ﺃﺗﺼﻠﻲ ﻟﻠﻨﺎﺱ ﻓﺄﻗﻴﻢ ﻗﺎﻝ ﻧﻌﻢ ﻓﺼﻠﻰ ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ ﻓﺠﺎء ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭاﻟﻨﺎﺱ ﻓﻲ اﻟﺼﻼﺓ ﻓﺘﺨﻠﺺ ﺣﺘﻰ ﻭﻗﻒ ﻓﻲ اﻟﺼﻒ ﻓﺼﻔﻖ اﻟﻨﺎﺱ ﻭﻛﺎﻥ ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ ﻻ ﻳﻠﺘﻔﺖ ﻓﻲ ﺻﻼﺗﻪ ﻓﻠﻤﺎ ﺃﻛﺜﺮ اﻟﻨﺎﺱ اﻟﺘﺼﻔﻴﻖ اﻟﺘﻔﺖ ﻓﺮﺃﻯ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻓﺄﺷﺎﺭ ﺇﻟﻴﻪ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺃﻥ اﻣﻜﺚ ﻣﻜﺎﻧﻚ ﻓﺮﻓﻊ ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻳﺪﻳﻪ ﻓﺤﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺃﻣﺮﻩ ﺑﻪ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﺛﻢ اﺱﺗﺄﺧﺮ ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ ﺣﺘﻰ اﺳﺘﻮﻯ ﻓﻲ اﻟﺼﻒ ﻭﺗﻘﺪﻡ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻓﺼﻠﻰ ﻓﻠﻤﺎ اﻧﺼﺮﻑ ﻗﺎﻝ ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﺑﻜﺮ ﻣﺎ ﻣﻨﻌﻚ ﺃﻥ ﺗﺜﺒﺖ ﺇﺫ ﺃﻣﺮﺗﻚ ﻓﻘﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺑﻜﺮ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻻﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻗﺤﺎﻓﺔ ﺃﻥ ﻳﺼﻠﻲ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻓﻘﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻣﺎ ﻟﻲ ﺭﺃﻳﺘﻜﻢ ﺃﻛﺜﺮﺗﻢ اﻟﺘﺼﻔﻴﻖ، ﻣﻦ ﺭاﺑﻪ ﺷﻲء ﻓﻲ ﺻﻼﺗﻪ ﻓﻠﻴﺴﺒﺢ ﻓﺈﻧﻪ ﺇﺫا ﺳﺒﺢ اﻟﺘﻔﺖ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﺇﻧﻤﺎ اﻟﺘﺼﻔﻴﻖ ﻟﻠﻨﺴﺎء ".
ﺭﻭاﻩ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ (652) ﻭﻣﺴﻠﻢ (421) .
◀ والثاني : في قصة صلح الحديبية وقول النبي صلى الله عليه وسلم لكاتبه وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد كتابة الشروط وقال : « هذا ماقاضى عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو ، فاعترض سهيل بن عمرو وقال : والله لو نعلم أنك رسول الله ماصددناك عن البيت ، ولكن اكتب محمد بن عبد الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : امحها يا علي ، واكتب محمد بن عبد الله ، فقال علي رضي الله عنه : والله لا أمحها أبداً يارسول الله ، فقال صلى الله عليه وسلم : هاتها يا علي ، فمحاها بيده عليه الصلاة والسلام ؛ لأنه يعلم تماماً أن علي لن يمحو كلمة رسول الله .
الحديث ثابت في الصحيحين ، رواه البخاري (3184) ، ومسلم (4731) .
فقال ذلك الصوفي : في الحديث الاول أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالثبات في مكانه والإمامة، ولكنه تأخر تأدباً معه صلى الله عليه وسلم .
وفي الحديث الثاني أمره النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يمحو عنه وصف الرسالة فامتنع تادباً معه صلى الله عليه وسلم .
وفيهما دليل على أَنَّ ( الأَدب مقدمٌ على الامتثال) .
قلت ( أبو محمد الموصلي) :
وهذا الاستدلال عاطل باطل؛ فإن الامتثال متضمن للأدب وزيادة . وأما ما جاء في هذين الحديثين فليس بحجة؛ لأن من الأوامر والنواهي ما يكون للإلزام ، فيكون عدم امتثاله عصيانا مذموماً، ومنها ما لا يكون للإلزام ، ويفهم المخاطب ذلك فلا يمتثله إكراما وتوقيرا للآمر والناهي ، فلا يكون ذلك عصياناً ولا يكون صاحبهُ مذموماً .
فامر النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر لم يكن امر لازماً ولا واجباًر ولذا آثر أبو بكر تقديم مقام الأدب عليه؛ فقال : " ما كان لابن أبي قحافة أن يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
ومن ذلك ما يكون من الأبناء البررة من الامتناع عن الجلوس في صدر المجلس إذ يأمرهم به أبوهم ، ويرونه هو الأحق بذلك ، ويعد فعلهم هذا برا يحمدون عليه ، ولا يدخل في شيء من العصيان ولا يقرب منه .
وأما قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم : " والله لا أمحوك أبدا " ، فقد كان امتناعه لاستعظامه محو صفة الرسالة ، عن رسول الله الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، في كتابته؛ ولذلك قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه للحديث في "فتح الباري" : "وكأَنَّ علياً فهم أَنْ أمرهُ له بذلك ليس متحتماً، فلذلك امتنع من امتثاله" انتهى .
فالأمر عندما لا يكون واجباً، والنهي عندما لا يكون محرماً، وقد عارضهما ما أوجب منهما وهو التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا تعارض حينئذ لأن التأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالتقديم . أما تعارض الأمر الواجب مع الأدب فلا يقع في الشريعة للزوم كلٍ منهما فتأمل .
هذا والله أعلى أعلم .
د. أبو محمد الموصلي ..