أحدث المقالات

أَنتم الأَطباء ونحن الصيادلة

أَنتم الأَطباء ونحن الصيادلة
المؤلف د. أَبو محمد الموصلي
تاريخ النشر
آخر تحديث

 



الفقه بين مدرستين (2)

يا معاشر الفقهاء: أَنتم الأطباء ونحن الصيادلة

تلك قولة الأَعمش المشهورة لأَبي حنيفة رحمهما الله تعالى(١). وهي عندي من المتشابه من الأَقوال، والتي افتتن بها كثير من الفقهاء لا سيما جهالهم وحسادهم ممن لا يحفظ الحديث ولا يقيمه سنداً ولا متناً، وينبزون بها أَهل الحديث، فهو لقب يطلق على من لا يفهم، تشنيعا بهم، وتنفيرا عنهم(٢)؛ كما فسره الإِمام أَبو يوسف لما سئل عن الفقيه الحسن بن زياد، فقال:" هو عندي كالصيدلاني إِذا سأَله رجل أَنْ يعطيه ما يطلق بطنه أَعطاه ما يمسكه" (٣).
وهذه القالة في الحقيقة تفضيل للصيادلة على الأَطباء، لا العكس كما تفهمها بعض المتفقهة، وبيان ذلك في حاجة الأَطباء لهم، فهم ليسوا كصيادلة الأَدوية والعقاقير، فصيادلة الدواء يصفون الدواء للناس، وصيادلة الحديث يصفون الحديث للفقهاء ابتداءًا.
وفي هذا قال الربيع: سمعت الشافعي يقول لبعض أَصحاب الحديث: "أَنتم الصيادلة، ونحن الأَطباء"(٤)، وكيف يعيب الشافعي على المحدثين وهو من أَجلّة المحدثين؟! حتَّى سمَّاه أَهل العراق (ناصرَ الحديث)(٥)، وقال عنه تلميذه أَحمد: "ما رأَيتُ أَحداً أَتبع للأَثر من الشافعي"(٦).
وَمَثَلُ المحدثين كمثل من يعمل على حفظ الشجر من العلل والدغل حتى إِذا سلم الشجر من الآفات قام الفقهاء بجني المنافع وقطف الثمر.
ولا يشك عاقل في أَنَّ مَن كان فقيها مُحدِّثا أَو مُحَدِّثاً فقيهاً هُو أَفضل ممنِ اقتصر على واحد منهم .
وأَمَّا تفضيل الفقهاء مطلقا أَو المحدثين مطلقا، فهذا ليس من شرعة العلم والإِنصاف؛ إِذ لكل منهما فضل عظيم في اختصاصه، {ﻭﻟﻜﻞ ﻭﺟﻬﺔ ﻫﻮ ﻣﻮﻟﻴﻬﺎ ﻓﺎﺳﺘﺒﻘﻮا اﻟﺨﻴﺮاﺕ}.
وإِن كان اختصاص الحديث كعلم أَفضل مِنَ الفقه مِن وجوهٍ:
الأَول: أَنَّ الحديث أَصل بذاته، والفقه فرع عليه؛ لتعلقه بالأَحكام وهي ثمرة الحديث. ومنهُ يعلم:
الثاني: أَنَّ توقف صحة الفقه على صحة الحديث، كتوقف صلاح الثمرة على صلاح الشجرة .
الثالث: أن شرف العلم بشرف المعلوم، وإن شرف الحديث يتعلق بحفظ الحديث وصيانته، بينما تعلق الفقه يكون بالأَحكام المستنبطة منه، ولا ريب أن الحفظ والصيانة مقدمان على الجني والديانة.
الرابع: أَنَّ حاجة أَهل الفقه إِلى الحديث أَعظم من حاجة أَهل الحديث إِلى أَهل الفقه، في العلم والصناعة، وأَما الحاجة العامة فكل محتاج إِلى الأَخر.
الخامس: أَنَّ من السهل أَنْ يكون المحدث فقيها، وذلك بالنظر في كتب الأُصول، ولكن ليس من السهل أَنْ يتحول الفقيه إِلى محدث، والواقع مليء بالأَمثلة. ومنه يعلم:
السادس: أَنَّ علم الحديث أدق مسلكا، وأَصعب مأْخذاً من علم الفقه؛ ولأَجل ذلك كثر الفقهاء وقل المحدثون. والله تعالى أَعلى وأَعلم.

د. أبو محمد الموصلي

(١) الكامل في الضعفاء، ابن عدي ٨/ ٢٣٨ .
(٢) ينظر: شرح علل الترمذي، ابن رجب الحنبلي ٢/ ٨٣٤ .
(٣) مناقب الإمام أبي حنيفة، الذهبي ص٦٨ .
(٤) سير أعلام النبلاء، الذهبي ١٠/ ٢٣ .
(٥) تاريخ بغداد، الخطيب البغدادي ٧/ ٦٤ .
(٦) حلية الأولياء، أبو نعيم ٩/ ١٠٠ .



تعليقات

عدد التعليقات : 0