أحدث المقالات

سباق اللفظ والمعنى

سباق اللفظ والمعنى
المؤلف د. أَبو محمد الموصلي
تاريخ النشر
آخر تحديث

سباق اللفظ والمعنى

سباق اللفظ والمعنى في العلوم 

الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِيْنَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَىْ نَبِيِّنَا مُـحَمَّدٍ الصَّادِقِ الأَمِيْنِ، وَعَلَىْ آلِهِ وَصَحْبِهِ وَأَتْبَاعِهِ أَجْمَعِيْنَ.

وَبَعْدُ..

   فَسَأَضَعُ بَيْنَ أَيْدِيْكُمْ قَاعِدَةً فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى، ثُمَّ سَأُبَيِّنُ أَثَرَهَا فِي بَعْضِ العِلُوْمِ الشَّرْعِيَّةِ وَغَيْرِهَا؛ لَعَلَّهَا تُضِيْءُ لِلسَّائِرِيْنَ بِهَا فِي طَرِيْقِ العِلْمِ أَمَارَاتِ الطَّرِيْقِ.

القَاعِدَةُ تَنُصُّ عَلَىْ: (أَنَّ الْمَعْنَى أَسْبَقُ مِنَ اللَّفْظِ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ، وَاللَّفْظَ أَسْبَقُ مِنَ الْمَعْنَى عِنْدَ الْمُخَاطَبِ).

   وَهِيَ قَاعِدَةٌ صَحِيْحَةٌ تُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ لَا تَحْتَاجُ إِلَىْ كَبِيرِ بُرْهَانِ، وَلَا كَثِيْرِ اسْتِدْلالٍ عَلَيْهَا، وَإنَّـمَا كَبِيْرُ نَفْعِهَا وَكُثْرَةِ فَوَائِدِهَا هِيَ الَّتِي تَحُثُّنَا عَلَىْ اسْتِحْضَارِهَا وَاسْتِعْمَالِهَا فِي مُـخْتَلَفِ العُلُوْمِ والأَحْكَامِ.

   وَهَذِهِ القَاعِدَةُ الدَّقِيْقَةُ، بَلْ هَذِهِ الحَقِيْقَةُ يَنْبَني عَلَى مَعْرِفَتِهَا أُمُوْرٌ كَثِيْرَةٌ فِي اللُّغَةِ والنَّحْوِ وَالْمَنْطِقِ وَالأُصُوْلِ وَالفِقْهِ وَالاعْتِقَادِ وَعُمُوْمِ الأَحْكَامِ وَغَيْرِهَا.  

مَعْنَى القَاعِدَةِ:

    وَهَذِه القَاعِدَةُ رَقِيْقَةٌ دَقِيْقَةٌ، مَعْنَاهَا ظِاهِرٌ مِنْ مَنْطُوْقِهَا؛ وَهِيَ أَنَّ الْمَعَانِي  وَهِيَ (التَّصَوُّرَاتُ الذِّهْنِيَّةِ) تَسْبِقُ إِلَىْ ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ أَوَّلَاً قَبْلَ الأَلْفَاظِ، ثُـمَّ يَبْحَثُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي صِيَاغَةِ الأَلْفَاظِ الَّتِي تُعَبِّرُ عَنْهَا.

وَأَمَّا عِنْدَ السَّامِعِ أَو الْمُخَاطَبِ؛ فَالأَمْرُ بِالعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ؛ فَهُوَ يَسْتَقْبِلُ هَذِهِ الأَصْوَاتِ أَوِ الأَلْفَاظِ أَوَّلَاً، ثُمَّ يُحَلِّلُهَا ذِهْنِيَّاً لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهَا تِلْكَ الْمَعَانِي.

آثَارُهَا فِي العُلُوْمِ:

    لِهَذِهِ القَاعِدَةِ أَثَرٌ فِي العُلُوْمِ وَالأَحْكَامِ كَمَا أَنَّ لَهَا أَثَرٌ فِي السُّلُوْكِ أَيْضَاً، وَسَنَسْتَعْرِضُ هَذِهِ الآثَارَ فِي بَعْضِ العُلُوْمِ، وَنَضْرِبُ عَلَىْ ذَلِكَ بَعْضَ الأَمْثِلَةِ؛ لِتَكُوْنَ أَصْلَاً فِيْهَا يُسْتَحْضَرُ عِنْدَ التَّصُوُّرِ وَالحُكْمِ.

فِي النُّصُوْصِ الشَّرْعِيَّةِ:

   عِنْدَ الشَّارِعِ (الوَحْيِ): الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ اللهِ تَعَالَى هُوَ الأَصْلُ، ثُـمَّ جَاءَ التَّعْبِيْرُ القُرْآنِي أَوِ النَّبَوِيُّ الدَّقِيْقُ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ هَذَا المَعْنَى. وَعِنْدَ الْمُجْتَهِدِ: يَبْدَأُ بِاللَّفْظِ القُرْآنِي أَوِ الحَدِيْثِي، ثُـمَّ يَنْتَقِلُ إِلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ. وَأَثَرَهَا فِي مَبَاحِثِ العُمُوْمِ وَالخُصُوْصِ وَالْمَفْهُوْمِ وَالْمُطَابَقَةِ: هُوَ مَعْرِفَةُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَقْصُدُ الْمَعْنَى أَوَّلَاً، فَيَنْبَغِي عَدَمُ التَّعَلُّقِ بِظَاهِرِ اللَّفْظِ عَلَىْ غَيْرِ مُرَادِ الْمُتَكَلِّمِ.

أَوَّلَاً: في اللغة:

   عِنْدَ التَّأْلِيْفِ وَالنَّظْمِ: الْمُبْدِعُ أَوِ الكَاتِبُ وَالْمُؤَلِّفُ لَا يَخْتَارُ اللَّفْظَ عَبَثَاً، بَلْ يَسْبِقُ الْمَعْنَى فِي ذِهْنِهِ ثُمَّ يَنْتَقِي مَا يُنَاسِبُهُ مِنَ الْمُفْرَدَاتِ وَالتَّرَاكِيْبِ. وَلِهَذَا يُقَالُ: الْمَعَانِي مَطْرُوْحَةٌ فِي الطَّرِيْقِ، وَإِنَّما الشَّأْنُ فِي إِسْتِقَامَةِ الكَلامِ وَصِيَاغَةِ الأَلْفَاظِ(1).

   وَأَمَّا عِنْدَ التَّلَقِّي وَقِرَاءَةِ النُّصُوصِ: فَالسَّامِعُ يَلْتَقِطُ اللَّفْظَ، ثُمَّ يَرْبُطُهُ بِسِيَاقِهِ وَدَلَالَاتِهِ لِيَسْتَخْرِجَ الْمَعْنَى. وَهَذَا يُفَسِّرَ لَنا أَهَمِّيَّةَ النَّحْوِ وَالبَلَاغَةِ لِفِهْمِ الْمَرَادِ مِنَ النُّصُوْصِ.

الأَثَرُ التَّطْبِيْقِيٌّ: وَهَذَا يُفَسِّرُ لَنَا لِمَاذَا فِي الْمَعَاجِمِ يُذكَرُ الْمَعْنَى أَوَّلَاً ثُمَّ الأَمْثِلَةُ، بَيْنَمَا فِي الدَّرْسِ اللُّغَوِيِّ يُعْطَى اللَّفْظُ ثُمَّ يُشْرَحُ مَعْنَاهُ.

وَمِثَالٌ عَلَى ذَلِكَ: قَدْ يُفَكِّرُ الْمُتَكَلِّمُ فِي مَعْنَى (طَلَبِ الْمُسَاعَدَةِ) ثُـمَّ يَخْتَارُ: أَلفْاظَاً؛ مِثْلَ: (أَعِنِّي)، أَوْ (سَاعِدْنِي)، أَوْ (هَبْ لِي يَدَكَ) أو (قِفْ مَعِي). فَالسَّامِعُ يَسْمَعُ مثلاً : (قِفْ مَعِي). ثُـمْ يَفْهَمُ أَنَّ الْمَقْصُوْدَ هُوَ طَلَبُ الْمُسَاعَدَةِ، لا الوُقُوْفَ بِجَانِبِهِ!

   وَكَذَلِكَ فِي النَّحْوِ: فَإِنَّ أَصْلَ النَّحْوِ قَائِمٌ عَلَىْ أَنَّ الْمَعْنَى النَّحْوِيِّ (العَامِلَ، وَالرَّبْطَ بَيْنَ الكَلِمَاتِ) سَابِقٌ عَلَىْ اللَّفْظِ فِي ذِهْنِ الْمُتَكَلِّمِ؛ وَلِذَا يَقُوْلُ سِيْبَوِيْه نَفْسِهِ: "إِنَّـمَا النَّحْوُ أَنْ تُعْرِبَ عَنِ الْمَعَانِي بِالأَلْفَاظِ".

   فَالْمُتَكَلِّمُ يُحَدِّدُ الْمَعَنْى الإِعْرَابِي فِي ذِهْنِهِ (فَاعِلٌ، مَفْعُوْلٌ، مُبْتَدَأٌ، خَبَرٌ…) ثُـمَّ يُلْبِسُهُ لَفْظَاً مُنَاسِبَاً لَهُ. بَيْنَمَا يَبْدَأُ الْمُخَاطَبِ بِسَمَاعِ التَّرَاكِيْبِ ثُـمَّ يُحَدِّدُ وَظَائِفَهَا الإِعْرَابِيَّةِ لَيْسَتْنَبِطَ الْمَعَنْى السَّابِقِ.

وَمِثَالٌ عَلَى ذَلِكَ: قَدْ يَقْصُدُ الْمُتَكَلِّمُ الإِخْبَارَ عَنْ (زَيْدٍ) بِـ(القِيَامِ)، فَيُكَوِّنُ فِي ذِهْنِهِ لَا شُعُوْرِيَّاً هَذِهِ العَلَاقَةَ النَّحْوِيَّةَ: [الْمُبْتَدَأ: زَيْدٌ] + [الخَبَرُ: قَائِمٌ]، ثُـمَّ يَنْطِقُ: (زَيْدٌ قَائِمٌ). وَحِيْنَ يَسْمَعُ السَّامِعُ: (زَيْدٌ قَائِمٌ). يَتَعَرَّفُ عَلَىْ الْمُبْتَدَأِ وَالخَبَرِ لِيَسْتَخْلِصَ أَنَّ الْمُرَادَ الإِخْبَارُ بِالقِيَامِ. وَهَكَذَا.

ثَانِيَاً: فِيْ الْمَنْطِقِ:

   الْمَنَاطِقَةُ يُقِرِّرُوْنَ فِي التَّحْلِيْلِ العَقْلِيِ أَنَّ الفِكْرَ يَبْدَأُ بِالتَّصُوَّرَاتِ وَالتَّصْدِيْقَاتِ ( وَهِيَ الْمَعَانِي)، ثُمَّ يُلْبِسُهَا الإِنْسَانُ عِبَارَاتِ الأَلْفَاظِ لِيُبَلِّغَهَا. وَأَمَّا فِي القِيَاسِ وَالاسْتِدْلَالِ: فَعِنْدَ إِقَامَةِ الحُجَّةِ، يَبْدَأُ الْمُتَكَلِّمُ بِالْمَعْنَى بِـ(الْمُقَدِّمَاتِ) الذِّهْنِيَّةِ، ثُمَّ يُرَكِّبُ أَلْفَاظَاً تُؤَدِّيْهَا. وَالأَثَرُ العَكْسِيُّ عِنْدَ السَّامِعِ: حِيْنَ يَسْتَمِعُ الْمُتَلَقِي القَضِيَّةَ الْمُعَبَّرَ عَنْهَا، ثُمَّ يُحَاوِلُ تَفْكِيْكُهَا ذِهْنِيَّاً لِاسْتِنْبَاطِ الْمَعْنَى أَوِ الحُكْمِ وَإِدْرَاكِ اللُّزُوْمِ أَوِ التَّعَارُضِ فِيْهِمَا.

   فَالْمُتَكَلِّمُ يَبْنِي القِيَاسَ ذِهْنِيَّاً (مُقَدَّمَاتٌ + نَتِيْجَةٌ)، ثُـمَّ يَصُوْغَهُ لَفْظِيَّاً، بَيْنَمَا الْمُخَاطَبُ يَسْمَعُ الْمُقَدَّمَاتِ، ثُـمَّ يَبْنِي فِي ذِهْنِهِ التَّرَابُطَ الْمَنْطِقِيَّ لِيَسْتَخْرِجَ النَّتِيْجَةَ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ: قَدْ يَعْتَقِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَنَّ (كُلَّ إِنْسَانٍ فَانٍ) وَ(زَيْدٌ إِنْسَانٌ)، ثُـمَّ يُرَكِّبُهَا: (زَيْدٌ فَانٍ). فِي حِين السَّامِعُ يَسْمَعُ: (زَيْدٌ فَانٍ)، فَيَسْتَنْتِجُ أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَبْنِي عَلَىْ مُقَدِّمَتَيْنِ مَنْطَقَتَيْنِ.

ثَالِثَاً: فِي أُصُوْلِ الفِقْهِ:

   فِي دَلَالَةِ الأَلْفَاظِ: القَاعِدَةُ تُؤَثِّرُ عَلَىْ مَسَائِلَ؛ مِثْلُ: دَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ، وَالتَّضَمُّنِ، وَالالْتِزَامِ. فَالفَقِيْهُ عِنْدَ الإِفْتَاءِ: يَسْتَحْضِرُ الحُكْمَ أَوَّلَاً، ثُـمَّ يَصُوْغُهُ بِعِبَارَاتٍ مُنْضَبِطَةٍ. وَأَمَّا الْمُسْتَفْتِي أَوِ القَارِئُ: فَيَتَلَقَّى النَّصَّ اللَّفْظِيَّ أَوَّلَاً، ثُـمَّ يَسْتَنْبِطُ الحُكْمَ مِنْهُ. فَالقَاعِدَةُ الأُصُوْلِيَّةُ: (العِبْرَةُ فِي الكَلَامِ بِالْمَقَاصِدِ وَالْمَعَانِي لَا بِالأَلْفَاظِ وَالْمَبَانِي). وَقَدْ قَرَّرَ ابْنُ القَيِّمِ أَنَّ: (الأَلْفَاظَ إِنَّـمَا وُضِعَتْ لِمَعَانٍ، فَإِذَا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ وَاتَّحَدَ الْمَعْنَى لَـمْ يَضُرْ).

فَعِنْدَ الشَّارِعِ: الْمَعْنَى الْمُرَادُ هُوَ الأَصْلُ، ثُـمَّ نُقِلَ بِأَلْفَاظِ الوَحِيِ كِتَابَاً وَسُنَّةَ. وَعِنْدَ الْمُجْتَهِدِ: يَبْدَأُ بِاللَّفْظِ (النَّصِّ) لِيَسْتَنْبِطَ مِنْهُ الحُكْمَ وَالْمَعْنَى.

وَمِثَالُ ذَلِكَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾، عِنْدَ الشَّارِعِ الْمَعْنَى: إِيْجَابُ غُسْلِ الوَجْهِ. وَأَمَّا عِنْدَ الفَقِيْهِ فَيَبْدَأُ مِنَ اللَّفْظِ لِيَسْتَنْبِطَ حُكْمَ وُجُوْبَ غَسْلِ الوَجْهِ فِي الوُضُوْءِ.

رَابِعَاً: فِي الفِقْهِ: مِنَ القَوَاعِدِ الفِقْهِيِّةِ: (الْمَقَاصِدُ مُعْتَبَرَةٌ فِي التَّصَرُّفَاتِ). وَأَصْلُهَا حَدِيْثُ: «إِنَّـمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» مُتَفَّقٌ عَلَيْهِ، فَالنِّيَّةُ (الْمَعْنَى) تَسْبِقُ العَمَلَ أَوِ القَوْلَ (اللَّفْظَ أَوِ الفِعْلَ). وَأَثَرُ ذَلَكَ يَظْهَرُ فِي الإِفْتَاءِ: فَالفَقِيْهُ يَفْهَمُ قَصْدَ السَّائلِ قَبْلَ الحُكْمِ عَلَىْ لَفْظِهِ أَوْ فِعْلِهِ. وَكَذَلِكَ فِي القِضَاءِ: لَا يَحْكُمُ القَاضِي عَلَىْ ظَاهِرِ لَفْظِ الْمُقِرِّ إِلَّا بَعْدَ فَهْمِ مُرَادِهِ إِذَا كَانَ لَهُ مَـحْمَلٌ صَحِيْحٌ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ: مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ - لَوْ كَانَتْ أَمَةً -: "أَنْتِ حُرَّةٌ". قَاصِدَاً (العِتْقَ مِنَ العُبُوْدِيَّةِ). فَهَذَا الْمَعْنَى صَحِيْحٌ، وَأَمَّا إِنْ قَصَدَ الطَّلَاقَ فَهُوَ حُكْمٌ آخَرُ. فَالقَاضِي حِيْنَ يَسْمَعُ "أَنْتِ حُرَّةٌ"، يَبْحَثُ عَنِ النِّيَّةِ وَالْمَعْنَى قَبْلَ الحُكْمِ عَلَىْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ.

 خَامِسَاً: فِي الاعْتِقَادِ:

   وَذَلِكَ فِي فَهْمِ نُصُوْصِ الصِّفَاتِ: فَالْمُبَلِّغُ وَهُوَ النَّبِيُّ ﷺ يَبَلِّغُ أَلْفَاظَ الوَحْيِ عَنِ اللهِ تَعَالَى، وَهِيَ مُعَبِّرَةٌ بِدِقَّةٍ عَنِ الْمَعْنَى الحَقِّ الَّذِي يُرِيْدُهُ اللهُ تَعَالَى. وَأَمَّا السَّامِعُ فَيَبْدَأُ بِاللَّفْظِ، ثُـمَّ يَتَصَوَّرُ الْمَعْنَى، وَهُنَا يَقَعُ الخَلَلُ إِنْ سَبَقَ ذِهْنُهُ إِلَىْ مَعَانٍ بَاطِلَةٍ أَوْ مُشَبَّهَةٍ. فَإِنَّهُ سَيَجْنَحُ إِلَىْ التَّأْوِيْلِ أَوِ التَّفْوِيْضِ.

   وَحَسْمُ النِّزَاعِ فِي بَابِ التَّأْوِيلِ أَوِ التَّفْوِيْضِ: هُوَ أَنْ نَعْلَمَ أَنَّ مَنْ يُدْرِكُ أَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ (اللهُ تَعَالَى أَوِ النَّبِيُّ ﷺ) هُوَ الأَصْلُ، سَيُدْرَكُ وُجُوْبَ رَدِّ الفَهْمِ إِلَىْ مَا يُوَافِقُ هَذَا الْمَعْنَى الصَّحِيْحِ، لَا أَنْ يَخْتَلِقَ مَعْنَىً جَدِيْدَاً بِنَاءًا عَلَىْ ظَنِّ اللَّفْظِ.

   وَكَذَلِكَ فِي مَسَائلِ الإِيـمَانِ وَالكُفْرِ: فَقَدْ يَقُوْلُ الْمُتَكَلِّمُ لَفْظَاً وَيَقْصُدُ بِهِ مَعْنَىً صَحِيْحَاً، لَكِنِ السَّامِعُ يُسِيْءُ فَهْمَهُ؛ فَيَبْنِي حُكْمَاً خَاطِئَاً إِنْ لَـمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ تَرْتِيْبِ الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ.

فَالأَصْلُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ: هُوَ إِثْبَاتُ الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيْفٍ وَلَا تَعْطِيْلٍ وَلَا تَكْيِيْفٍ وَلَا تَمْثِيْلٍ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي فِي كَلَامِ اللهِ وَرَسُوْلِهِ هُوَ حَقٌّ وَهُوَ الْمُقَدَّمُ، وَأَمَا اللَّفْظُ فَخَادِمٌ لَهُ.

فَعِنْدَ اللهِ تَعَالَى: الْمَعْنَى الحَقُّ هُوَ الْمُرَادُ أَوَّلَاً، ثُـمَّ أُلْبِسَ اللَّفْظَ القُرْآنِيَّ أَوِ النَّبَوِيَّ.

وَعِنْدَ السَّامِعِ: يَبْدَأُ بِاللَّفْظِ ثُـمَّ يَتَصَوَّرُ الْمَعَنَى الَّذِي يُرِيْدُهُ اللهُ وَرَسُوْلُهُ، وَهُنَا يَقَعُ الانْحِرَافُ عِنْدَ الكَثِيْرِ إِذَا سَبَقَ إِلَىْ ذِهْنِهِ مَعْنَى بَاطِلٍ؛ فَيُحَاوِلُ الهُرُوْبَ مِنْهُ فَيَقَعَ فِي مَعْنَى أَبْطَلَ مِنْهُ.

وَمِثَالُ ذَلِكَ: لَفْظُ (اليَدِ) فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ (المائدة:64)، عِنْدَ الشَّارِعِ؛ الْمَعْنَى: الصِّفَةُ اللَّائِقَةُ بِاللهِ تعالى وَبِجَلَالِهِ بِلَا تَمْثِيْلٍ وَلَا تَشْبِيْهٍ وَلَا تَفْوِيْضٍ وَلَا تَعْطِيْلٍ.

وَأَمَّا عِنْدَ السَّامِعِ فَيَبْدَأُ بِاللَّفْظِ، فَإِنْ لَـمْ يَضْبُطِ الْمَعْنَى الْمُرَادَ وُفْقَ مَنْهَجِ السَّلَفِ، وَقَعَ فِي التَّأْوِيْلِ البَاطِلِ أَوِ التَّشْبِيْهِ الْمَائِلِ أَوِ التَّفْوِيْضِ العَاطِلِ.

     وَخُلَاصَةُ هَذِهِ القَاعِدَةِ أَنَّهَا تُؤَسِّسُ لِفَهْمٍ مُهِمٍ: وَهِيَ أَنَّ الْمَعْنَى عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِ هُوَ الأَصْلُ وَاللَّفْظُ خَادِمٌ لَهُ. وَأَنَّ اللَّفْظَ عِنْدَ السَّامِعِ هُوَ الْمَدْخَلُ إِلَى الْمَعْنَى، فَلَا يَجُوْزُ أَنْ يُحْكَمَ عَلَىْ الْمُتَكَلِّمِ قَبْلَ فَهْمِ مَقْصِدِهِ.

وَتُسْتَعْمَلُ - فَضْلَاً عَمَّا ذَكَرْنَا مِنَ العُلُوْمِ - فِي أَبْوَابٍ عَدِيْدَةٍ دَقِيْقَةٍ فِي التَّأْوِيلِ، وَفَهْمِ النُّصُوْصِ، وَالحِوَارِ، ورَدِّ الشُّبَهَاتِ، وَالدِّفَاعِ عَنِ العُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ، وَغَيرِِ ذَلِكَ. وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

د. أَبو محمد الموصلي



(1) قُوْلُ الجَاحِظُ: الْمَعَانِي مَطْرُوْحَةٌ فِي الطَّرِيْقِ يَعْرِفُهَا الأَعْجَمِيُّ وَالعَرَبِيُّ، وَالبَدَوِيُّ وَالقُرَوِيُّ، وَالْمَدَنِيُّ، وَإِنَّـمَا الشَّأْنُ فِي إِقَامَةِ الوَزْنِ، وَتَخَيُّرِ اللَّفْظِ، وَسُهُوْلَةِ الْمَخْرَجِ، وَكُثْرَةِ الْمَاءِ، وَفِي صِحَّةِ الطَّبْعِ وَجَوْدَةِ السَّبْكِ.

تعليقات

عدد التعليقات : 0